موت الإجماع القديم وولادة الإجماع الجديد
علي محمد فخرو
هذا الوضع المفجع الذي تعيشه معظم قيادات الدول العربية القطرية، بسبب تراكم وتعاظم فشلها الذريع في شتى مناحي الحياة، خصوصا فشلها في المحافظة كحد أدنى على استقلال بلدانها وتحررها الوطني، وعلى تحقيق تنمية إنسانية شاملة مستمرة تحفظ للمواطن كرامته ومستوى معيشة مقبولا… هذا الوضع أصبح يطرح أمامنا بديهة لا مفر من مواجهتها بصدق وأمانة.
إنها بديهة مؤداها، أن منظومة العلاقات والتراتبية الاجتماعية السابقة، التي كانت تحظى بشبه إجماع مجتمعي حولها، سواء أكانت بنيت على أسس قبلية أو عشائرية أو طائفية، وبالتالي علاقات القرابة والزبونية، أو قبول بمنطق ذهاب غنيمة الحكم وإدارة أمور الدولة، لمن نجح في الاستيلاء على الحكم بأي طريقة فاعلة كفؤة… أن تلك المنظومة تشوهت وشاخت ومرضت، وأصبحت في طريقها للموت البطيء المحتَم. وفي هذه الحالة تحتاج تلك المنظومة القديمة أن تستبدل بمنظومة إجماع جديدة أحسن كفاءة وأكثر قبولا.
ذلك أن فشل وانكسار منظومة الإجماع السابق حول من يدير الدولة، وكيف يديرها تطرح الآن وبقوة، مسألة الأسس التي تقوم عليها شرعية الحكم، إذ لا يمكن لمنظومة حكم وإدارة أن تفشل في إدارة أزمات كبرى، ولا تصبح تحت المساءلة، وبالتالي مسألة مدى تمتعها بالشرعية. ذلك أن أزمة أي شرعية في الحكم تستدعي بناء منظومة علاقات اجتماعية جديدة، تعيد لها الاستقرار والقبول العام اللازمين لممارستها بكفاءة وفاعلية. ومن المؤكد أن أي علاقات اجتماعية جديدة ومغايرة في جوهرها للعلاقات القديمة، ستفرز قوى وقيما ووسائل وسلوكيات وأهدافا جديدة. والسؤال الذي يطرح نفسه في الحال هو:
ما طبيعة ومكونات الإجماع المجتمعي الجديد، الذي يجب أن يسعى الجميع لطرحه على مجتمعات الأقطار العربية، كأولوية وجودية قصوى في الحياة السياسية العربية؟ والجواب هو: يبدأ التركيز على الجوانب الثلاثة التالية كخطوات ضرورية لبناء إجماع مجتمعي جديد.
*أولا، قبول وتطبيق مبدأ الشراكة الوطنية في الأرض والخيرات، والفرص الحياتية، وإدارة شؤون البلاد، كل شرعية جديدة يجب أن تنطلق من هنا، من أن الوطن هو ملك الجميع، بدون استثناء لأي سبب كان، وأن إعطاء امتيازات لأي جماعة كانت، بسبب العرق أو الدين أو المذهب، أو علاقات القرابة الاجتماعية، أو الأعراق وغيرها، مرفوضة لا بشكل صريح ولا بشكل مقنع. ما عاد يجوز لأحد أن يستعمل الوجاهة التاريخية، أو كثرة العدد أو الثروة، أو أي اسناد فئوي من أي مكون مجتمعي، قبلي أو عسكري، أو حزبي أو ديني، لتبرير المساس بتلك الشراكة الوطنية.
*ثانيا يجب أن تصاغ كل أسس الشراكة الوطنية في صورة دساتير وقوانين، تكون فوق كل إرادة لأي جهة أو لأي شخص. وبالطبع فإننا هنا نتكلم عن قوانين ودساتير معبرة، وناتجة عن إرادة حرة يمارسها جميع المواطنين باسم الشراكة الوطنية، وباسم عقد اجتماعي جديد واضح الملامح ونافذ المفعول.
*ثالثا، الاتفاق على وممارسة أسس الشراكة الوطنية وسيادة القانون، من خلال نظام ديمقراطي، له حدود دنيا متفق عليها، وليس له سقف يمنع صعوده المستمر، ذاك النظام الديمقراطي، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، هو وحده الذي سيمنع حدوث فوضى وتخبط في اتخاذ القرارات، مثل التي سادت المشهد العربي في السنوات الأخيرة، وأدت إلى جحيم الانقسامات والصراعات والخيانات، التي تهدد بعض الأقطار العربية في وجودها، كما تهدد تماسك البنية القومية الجامعة للأمة العربية كلها.
بدون الديمقراطية المبنية على مبادئ العدل والإنصاف ستصبح الشراكة الوطنية وسيادة القانون مظهرية وكلامية، كما هو حالهما الآن في كل بلاد العرب. من هنا الأهمية القصوى للدخول في أدق تفاصيل المشروع الديمقراطي العربي المقترح، وفي دهاليز من سيحمله ويناضل من أجله. ومع أن هناك كتابات كثيرة حول ذلك إلا أن وعي الموضوع اقتصر على نخبة صغيرة مهتمة، هذا لا يكفي، إذ يحتاج إلى قاعدة شعبية مدنية واسعة تحتضنه، وهذا ما يستوجب أن يناقش كموضوع عام، أمام رأي عام، في ساحات تواصل عامة.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/10/29