د. وفيق إبراهيم

انتقاد الإسلام كديانة تتعرّض لأزمة «معاصرة» عميقة، ليس مجرد وجهة نظر عادية خطرت في تحليل للرئيس الفرنسي ماكرون لتفسير هجوم قتل فيه إسلامي شيشاني مدرساً فرنسياً كان يعرض رسوماً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد.

المسألة هنا أكبر، لأن الرؤساء لا ينتمون لفئات الزجالين والشعراء الذين يطلقون إبداعاتهم ارتجالاً. فلديهم دائماً فئات من المستشارين تحدّد لهم أبعاد الأفكار وتداعياتها الشعبية والسياسية والدولية.

ضمن هذا الإطار يجب التعامل مع الانزلاق الماكروني الخطير واقتفاء أهدافه الحقيقية على مستويات مختلفة.

لا بدّ في المنطلق من التأكيد على أن ماكرون لا يهتم بمضمون الأديان بل بتداعياتها المختلفة في السياسة والاقتصاد والجيوبوليتيك داخل بلاده وخارجها.

كلامه إذاً الموجّه أولاً الى الإرهاب الإسلاموي يستثير هذا الإرهاب الذي يمر حالياً بمرحلة تراجع الى حدود الاضمحلال، ما يعني ان هذا الارهاب يعاود الانتقال كردة فعل على انتقادات ماكرون من درجة ذئاب منفردة إلى معاودة تنظيم زواياه المتفرقة في إطار تنظيمي أكثر خطورة.

هذا ما حدث فعلاً والدليل أن استمرار الهجمات الإرهابية في اوروبا واميركا وكندا وأوستراليا وبعض البلدان الإسلامية اكثر من مؤشر على بدء العودة التدريجية للإرهاب المتراجع الى استرجاع قوته بإسناد شعبي يعتقد ان ماكرون والغرب المحيط به هو أكثر خطراً من الإرهاب عليه.

الإرهاب اذاً هو الجهة الأولى المستفيدة من انتقادات رئيس جمهورية فرنسا.

فهل هذه مصادفة؟

يعرف ماكرون أن التحالف الأميركي الأوروبي الذي يعبث بالعراق وسورية وليبيا والبحر المتوسط يزعم أنه يحارب الإرهاب.

فلماذا يبقى المستعمرون في المنطقة الإسلامية العربية إذا كان الإرهاب الإسلامويّ على وشك الانقراض؟

الجهة الثانية المستفيدة من خطاب ماكرون هي الأنظمة العربيّة والإسلامية التي كانت تترقب بذعر عودة الصراعات الداخلية فيها من ارهاب ديني الى طبقي سياسي.

فبالعودة الى الاستنفار الإسلامي تتحول الطبقات الاجتماعية والتنوع السياسي والحزبي الى كتلة دينية واحدة لا توجد خلافات بين فئاتها وتؤيد الدولة في معركتها المفترضة ضد الذين يهاجمون الإسلام، أي الخارج المفترض.

أليست هذه الطريقة هي أفضل «المهارب» والمخارج لأنظمة ديكتاتورية تزعم أنها تمثل الدين وتحتمي بالغرب، وهي مخارج تاريخية تقتل عادة الصراعات الطبقية وترمي إجماعاً على كل التباينات السياسية فتذللها وتعاود إنتاجها على اساس موقف وطني ديني يجري التخوين الفوري لكل من يتجاوزه.

فمن هو المستفيد من وجود عالم إسلامي وعربي يحتوي على دول تقود مجتمعات متراصّة جرى بناؤها بالتحريض ضد مجهول يستهدف دينهم؟

علماً أن الإسلام الفعلي يدعو الى العلم ولو في الصين، مركزاً على العقل أولاً ولتأمين الحاجات الفعلية للناس.

لكن الصورة بعد انتقاد ماكرون تتعاكس مع ما يعمل الإسلام الفعلي عليه. فهناك أنظمة تتعاون مع الغرب الصناعي على تأمين حمايات تاريخية لها، وتؤمن لهذا الغرب بالمقابل استثماراً اقتصادياً الى حدود السرقة لموارد بلدانها.

كما تستورد منه كل شيء تقريباً وتسمح له اقامة قواعد عسكرية لها مهمتان: النفوذ الغربي العالمي وحماية الأنظمة الموالية له من أي تحركات اجتماعية داخلية او خارجية.

بذلك يتبين أن انتقاد ماكرون للإسلام ليس مجرد عملية نقدية علمية بقدر ما ترمي الى تثبيت الوضعية التاريخية التقليدية للدول الإسلامية والعربية ضمن مفهوم يجعل الغرب الاميركي الاوروبي سلطاناً فعلياً على المدى الإسلامي العالمي وله وكلاؤه المحليون.

بذلك يتضح ان هذا الغرب هو المستفيد الفعلي من اعادة تنشيط الارهاب وهو الجهة الثالثة الاساسية التي تعاود شحن المسلمين ضد عدو إسلامي مفترض وتحمي في الوقت نفسه أنظمته السياسية الدكتاتورية.

ألم تنجح انتقادات ماكرون في إعادة الامور عند العرب والمسلمين الى ما هدفت اليه؟

هذه هي الجهات الثلاث المستفيدة من المخطط الماكروني، فهل هناك من متضرّر؟

تجميد المجتمعات عند مستوى متخلف وعرقلة تقدمها نحو بناء أنظمة تقودها الى التطور الفعلي كما يدعو الإسلام، هو هدف أوروبي – أميركي بما يؤكد أن هذه المجتمعات هي المتضرّر الأساسي والفعلي.

ما يمكن هنا ملاحظته، هو أن ماكرون باحث عن تدعيم وضعه السياسي في الداخل الفرنسي، متّجهاً الى تأمين دور عالمي لفرنسا، وصفه في اوقات سابقة أنه يتجه للتكوّن ضمن رباعيّة قطبيّة من أميركا وروسيا والصين وأوروبا بقيادة فرنسية.

فهل تندرج انتقاداته للإسلام ضمن هذا المشروع؟ ترمي مباشرة على هذا الهدف لأن الانتقادات وإعادة تصحيحها عبر مقابلة الرئيس الفرنسي ماكرون عبر قناة الجزيرة، تقدّمان صورة رئيس فرنسي يبذل كامل ما لديه من إمكانات شخصية وفرنسية لتقديم نفسه زعامة عالمية بإمكان الأوروبيين الاعتماد عليها في نفوذهم الخارجي ولا تشكل خطراً على القطبية الاميركية بل عامل مساعد لها.

لجهة الاستياء الشعبي الإسلامي منه، فبالإمكان تدبره فرنسياً عبر عرض مدبلج بحنكة على وسائل الاعلام العربية والإسلامية تؤكد على اهتمام الفرنسيين بالإسلام ومدى احترام السياسة الفرنسية لقيمه.

هذا ما يحضّ على دعوة المجتمعات المحلية للعودة الى اعتبار الأنظمة المحلية وحماتها الغربيين من الاعداء الفعليين للناس والقيم الدينية على قاعدة ان الصراع يجب أن ينحصر على نسف الاستغلال الاقتصادي والانصياع السياسي.

وهذا يتطلب التزاماً عميقاً بقيم دينية ترفض فكرة الاستعمار وتعمل على تشجيع المجتمعات على الانقلاب عليه بكل الوسائل.

جريدة البناء