المختلف والمشترك بين المعسكرين الجمهوري والديموقراطي
موفق محادين
أوجه الخلاف بين جو بايدن ودونالد ترامب هي الأوجه ذاتها بين التعبيرات السياسية للتحولات الأميركية الأخيرة.
مقابل من يرى أنّ جو بايدن الأزرق ودونالد ترامب الأحمر، وجهان لعملة واحدة ولا توجد فروق بينهما، ومن يبالغ في رؤية المسافة بينهما، ثمة قراءة ثالثة لا تغيّب هذه الفروق، ولا تبالغ فيها، وتتحرى برامجهما المعلنة انطلاقاً من المصالح والمنظورات الوطنية والاستراتيجية لهذا الطرف أو ذاك من القوى الدولية والإقليمية.
ابتداءً، يستدعي المشهد الانتخابي الأميركي والمظاهر الجديدة في تجاذباته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الوقوف على المعطيات التالية:
المعطى الأول هو المسافة الجدلية بين الجمهورية والإمبراطورية، بحسب ملاحظة الكاتب الأميركي جورج فريدمان، ويقصد بالجمهورية ميراث العقود الأولى من تأسيس الدولة، وحضور ضاغط لأفكار لينكولن وجيفرسون، مع تأكيد نموذج مختلف لدولة وستفاليا (التي أسّست للدولة الرأسمالية الحديثة) ناجم عن فسيفساء المستعمرات الإنجليزية - الفرنسية السابقة التي شكَّلت الولايات المتحدة، واستمرار الإرث الإنجيلي مقابل العلمانية الأوروبية المبكرة.
أما الإمبراطورية، فيقصد بها انتقال الولايات المتحدة إلى عصر الإمبرياليات الكبرى، وما يعرف بالإمبراطورية البحرية، ونتائج الحرب العالمية الثانية التي كرست السيطرة الأميركية على نفط الشرق الأوسط، كما كرست الدولار في اتفاقية بريتون وودز على رأس النظام المالي والنقدي العالمي، وما ارتبط به من أساطيل عدوانية لتأكيد هذه السيطرة.
وبحسب استراتيجيين كبار، مثل بريجنسكي وكيسنجر، ظلت أميركا لعقود طويلة قادرة على الجمع بين الشكلين، الجمهوري والإمبراطوري، قبل أن تفقد السيطرة على هذا التوازن في العقدين الأخيرين.
المعطى الثاني هو الثورة المعلوماتية التي عمَّقت التشوه الاجتماعي - الاقتصادي الأميركي، وذلك بإزاحة خطوط إنتاج وصناعات كبيرة تقليدية لصالح الاقتصاد المعرفي والتقنيات الجديدة، التي أقصت الملايين من الطبقة الوسطى والقوة العاملة البيضاء من سوق العمل، ناهيك باستبدالات أخرى من العمالة اللاتينية والأفريقية الزهيدة.
هذا الأمر خدم القوى الصاعدة في المحيط العالمي مثل الصين، باعتمادها خطوط الإنتاج التقليدية إلى جانب الحديثة، كما أدى في المقابل إلى تعاظم دور اليمين العنصري الأبيض، محملاً العمالة المذكورة مسؤولية البطالة البيضاء.
المعطى الثالث هو ترافق الأزمات الدورية المتفاقمة مع تصعيد لإيديولوجيا فاشية تجمع الداروينية العنصرية مع الإنجيلية المتصهينة، وهي الإيديولوجيا التي بلورها برنار لويس وهنتنغتون باسم صراع الحضارات والثقافات والأديان، وساهمت في إعادة الاعتبار إلى الوظيفة الإقليمية للعدو الصهيوني، رغم انهيار هذه الوظيفة بعد التدخل الأميركي المباشر في المنطقة، كما بعد إخفاق العدو مرتين أمام حزب الله في لبنان.
في ضوء ما سبق، فإن أوجه الخلاف بين بايدن وترامب هي الأوجه ذاتها بين التعبيرات السياسية للتحولات الأميركية الأخيرة، وأبرزها:
1- محاولات ترامب اليائسة التي تجاوزها الزمن الرأسمالي ودوراته الاقتصادية، والمتمثلة في سعيه لإعادة عقارب الساعة الرأسمالية إلى الوراء، أي بناء توازن بين الصناعة التقليدية والثورة المعلوماتية والتضخم النقدي الناجم عن أن العملة المحلية الأميركية هي ذاتها العملة الصعبة (الدولار)، وهو الأمر الذي يفسر إطلاقه النار في كل الاتجاهات، بما في ذلك مع أقرب حلفائه في اتفاقية النافتا (المكسيك وكندا) وغيرها، ناهيك بالصين، كهدف مباشر لهذه الحرب، من بحر الصين الجنوبي إلى طريقي اللؤلؤة والحرير.
2- حرب ترامب وفريق شركات النفط المعروف في منطقة الخليج وقزوين وفنزويلا، وهي الحرب التي تجلَّت في عداء سافر مع إيران وفنزويلا، وكذلك مع روسيا بين الحين والحين.
3- على صعيد قضايا المنطقة، وخصوصاً القضية الفلسطينية، تبني ترامب السافر لخطاب نتنياهو ومحاولة تمرير "صفقة القرن" التي تهدف إلى تصفية كل قضايا الحل النهائي، ومن دون تقديم أي تنازلات، بل تصفية القضية الفلسطينية برمتها، وليس التعاطي مع أي حلول بشأنها.
في المقابل، ما يميّز بايدن عن خصمه ترامب:
1- الاهتمام بقضايا داخلية ذات صلة بالبرنامج الصحّي وكورونا والضرائب والمهاجرين والإجهاض، وضبط الفسيفساء الديموغرافية التي عاودت التشظي في عهد ترامب...
2- الانحياز إلى فلسفة السوق مقابل محاولة ترامب الجمهوري التدخل في هذه الفلسفة باسم الليبرالية الجديدة، وفي ذلك مفارقة لافتة، فالمفترض أن التدخل الاجتماعي جزء من برنامج الديموقراطيين أكثر من الجمهوريين.
3- في مفارقة أخرى، تبنّي الديموقراطيين، لا الجمهوريين المحافظين، لجماعات الإسلام الأطلسي، كبديل لما أسمته هيلاري كلينتون وفريقها "الحرس البيروقراطي"، ودعم هذه الجماعات في سوريا وليبيا، وكذلك الضغط على قيادة الجيش المصري في حينه، لحسم صناديق الاقتراع الأخيرة لصالح محمد مرسي، مقابل مرشح الجيش شفيق.
ويشار هنا إلى أنَّ المرجعية الأساسية للديموقراطيين حول الإسلام السياسي تعود إلى الأميركيين الثلاثة (لويس – شتراوس - ونوح فيلدمان).
ويعتقد كثير من المراقبين أنَّ جماعات الإسلام المذكورة تعوّل على عودة الديموقراطيين إلى البيت الأبيض.
4- في ما يخصّ إيران والصين وفنزويلا، فإنّ ترحيب هذه البلدان باحتمال سقوط ترامب هو ترحيب مختلف عن الجماعات المذكورة، بالنظر إلى الاشتباك الذي أداره ترامب معها من منظورات استراتيجية:
_ الصّراع مع إيران حول صعودها الإقليميّ، وكذلك حول نفط الشرق الأوسط وبحر قزوين.
_ الصراع مع الصين حول دورها العالمي، كما حول طريق الحرير وبحر الصين الجنوبي.
_ الصراع مع فنزويلا في إطار المحاولة الأميركية لاستعادة مبدأ مونرو الاستعماري في أميركا اللاتينية.
5- في ما يخصّ سياسات الديموقراطيين حول القضية الفلسطينية، فهي لا تختلف في جوهرها عن سياسات الجمهوريين و"صفقة القرن"، إلا من حيث إدارة هذه الملفات بمنطق الخداع والتسويف والسيناريو الذي وضعه بيريز، وصار مرجعية أساسية لتقارير معهد واشنطن (اللوبي الإسرائيلي)، ويدور حول عنوان السلام الاقتصادي على مستوى الإقليم مقدمة للسلام السياسي المزعوم بين مركز إسرائيلي ومحيط عربي.
6- في ما يخصّ الكتل التصويتيّة، فالأمر لا يخلو من مفارقات أيضاً.
وإضافةً إلى ما يبدو ثابتاً في هذه الكتل: الأفارقة والمهاجرون والهامشيون أقرب إلى الديموقراطيين، مقابل الجماعات الإنجيلية والمحافظة والمجمع الصناعي الحربي والقسم الأعظم من شركات النفط، الأقرب إلى الجمهوريين، فإنَّ شرائح واسعة من الطبقة الوسطى والعمالة البيضاء ستصوّت على الأرجح لصالح ترامب، وذلك في سياق الخطاب العنصري الذي يحمل مسؤولية المالثوسيّة الجديدة للثورة المعلوماتية وطرد ملايين العمال من سوق العمل للعمالة الوافدة.
أخيراً، وحول آفاق المشهد الأميركي بعد الانتخابات، فإنَّ هذا المشهد يزداد تصدعاً مع فلتان الأسلحة المرخّصة والميليشيات اليمينية، ما يذكّر بشيء من أجواء الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، مع استبدال حرب الجنوب الإقطاعي من أجل الحفاظ على العمالة الأفريقيّة، ضد الشمال الصناعي وحاجته إلى تلك العمالة، في شكل آخر من حرب اليمين العنصري الجديد ضدها.
الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/11/04