«التطبيع» بديل «صفقة القرن»…!
د. علي سيّد
فجأة، ومن دون مقدمات، دبّت الحياة في حملات «دعم التطبيع مع إسرائيل» في الدول العربية، وبات الحديث الإعلامي والسياسي من دون وجل ولا خجل حول ضرورة استفادة الدول والشعوب العربية من علاقات جيدة مع «إسرائيل».
الهرولة التي قامت بها بعض الدول العربية نحو التطبيع وبتشجيع مفرط ورعاية من إدارة ترامب لكسب بعض الأصوات عسى أن تنفعه في الإنتخابات الرئاسية التي جرت الثلاثاء في 3 تشرين الثاني الفائت بعد نكساته المتتالية مع الجمهورية الإسلامية في إيران والتي ما زال ينتظر اتصالها، لم تأتِ نتيجتها كما أحب ترامب، لن أدخل في تاريخ العلاقات بين تلك الدول والكيان الصهيوني، لقد نجحت الإدارة الأميركية ومن دون جهد كبير بإقناع المهرولين أنّ السلطة الفلسطينية ومن معها لن يسيروا في صفقة القرن، وعليه فيمكن فكّ التنسيق أو الارتباط معها والتوجه إلى التطبيع المنفرد ولتتحمّل السلطة نتائج عدم موافقتها على الصفقة.
يقول رئيس مؤسسة الاستخبارات والمهام الخاصة «الموساد» يوسي كوهين «إنّ الاتفاقات مع دول الخليج تمنحنا عمقاً استراتيجباً مهماً ضدّ محور الشر الذي تديره إيران».
ومن الجدير بالذكر أنّ الموساد مهندس التطبيع العربي، يقوم في كثير من الأحيان مقام وزارة الخارجية الإسرائيلية في بعض المهام الخارجية وتكون له كلمة الفصل. وكذلك فإنّ الشقّ الإعلامي والثقافي يسير بموازاة الشقّ الأمني والسياسي، وهو الأخطر، لاعتماده منذ سنوات على القوة الناعمة التي ينتهجها الغرب والكيان الصهيوني لتسويق «صفقة القرن» بعد فشل كلّ المحاولات الأمنية والعسكرية لكسر محور المقاومة.
وفي هذا السياق فإنّ ظهور مسلسلات على بعض الشاشات العربية في شهر رمضان الفائت، مثل أم هارون «إطلاق إسم أرض إسرائيل بدل فلسطين» في سياق المسلسل مع ما يسوّقه من ضرورة قراءة التاريخ العربي المرتبط باليهود من زاوية أخرى، وذلك لإثارة التعاطف مع اليهود في الدول العربية، باعتبارهم مواطنين تمّ التمييز ضدّهم وتهجيرهم ومسلسل «مخرج – 7» الذي يروّج للتطبيع مع الصهاينة وغيرها من البرامج، لا شكّ بأنّ هذه الأعمال التي تقع في نطاق الحرب الناعمة، يكاد أن يكون تأثيرها في المجتمعات أكبر من أيّ طائرة أو صاروخ أو خبر أمني.
«إسرائيل» ما بعد التطبيع
إنّ موجة التطبيع السائدة ستجعل «إسرائيل» أكثر قبولاً على الصعيد الإقليمي، وفي المقابل إظهار المعارضين للصفقة والتطبيع بأنهم مغامرون مأزومون يعيشون خارج الشرعية الدولية وخارج كوكبنا ويجلبون لشعوبهم الفقر والويلات والأزمات.
يعتقد «الإسرائيليون» أنهم بعد الاتفاقيات التطبيعية، لن يحتاجوا إلى تطبيق «عقيدة الأطراف»، بل سيحاولون عزل دول الطوق العربي الشبه مطبّعة بشكل عام بطوق أوسع، وسيحاولون اختراق القلب العربي للقضاء على القضية الفلسطينية.
بعد توقيع اتفاقيّات التطبيع مع كلٍّ من الإمارات والبحرين والسودان، أعلن نتنياهو مزهواً عن «تغيير خريطة الشرق الأوسط»، معتبراً أن اتفاقيات التطبيع سوف «تضع حداً للعزلة الجغرافية التي كانت إسرائيل تعانيها»، وأنها تفيد «الأمن والقلب والجيب» على حدّ تعبيره.
من المؤكد أنّ العزلة التي يشير إليها نتنياهو كانت في صميم قلق الإسرائيليين منذ تأسيس «دولتهم» في العام 1948. لذلك، حاولوا تطوير عقيدة استراتيجية لتخطّي العزلة التي فرضها العرب عليهم بعد احتلالهم لفلسطين.
وكجزء من هذه العقيدة التي تبنّاها دايفيد بن غوريون، اعتقد الإسرائيليون أنّ القفز فوق المقاطعة والعزلة التي فُرضت على كيانهم، تفترض إقامة علاقات مع دول غير إسلامية، ودول إسلامية غير عربية تحيط بالعالم العربي جغرافياً، يقوم من خلالها الإسرائيليون بتطويق «دول الطوق» العربي.
وعلى هذا الأساس، أقامت «إسرائيل» ابتداء من خمسينيات القرن الماضي علاقات جيّدة مع تركيا، مستفيدة من مشاكلها مع الدولة السورية، ومع شاه إيران الذي كان حليفاً للغرب بالأساس، إضافة إلى الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، مستغلةً صراعه مع السّودان.
وثيقة «صفقة القرن» تعترف بأنّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يمنع التطبيع مع الدول العربية الأخرى، وعليه فإنه لا تطبيع قبل حلّ الصراع، لكن بعد فشل الصفقة وعدم سير السلطة بها، انقلبت بعض الدول وذهبت باتجاه التطبيع لأسباب عدة ذكرنا بعضها في بداية المقالة.
لا نستغرب إذا بدأ الإعلام في المرحلة القادمة بالتحدّث عن منافع التطبيع للعرب و«إسرائيل»، إذ تذكر الوثيقة أنّ «إسرائيل وجيرانها العرب الآن لديهم تصوّرات متشابهة بشكل متزايد حول التهديدات التي تهدّد أمنهم» (من قبل إيران)… لذا، فإنّ التطبيع وتسيير «رحلات جوية مباشرة بين دولة إسرائيل وجيرانها، ونقل الأشخاص والتجارة، وفتح الفرص لملايين الأشخاص لزيارة المواقع الدينية المقدسة»، يخدم هذه الدول.
قلب الإسرائيليون رأساً على عقب نظرية موشي ديان حول «القلب المزروع في المنطقة»، حين اعتبر «أننا قلب مزروع في هذه المنطقة، غير أنّ الأعضاء الأخرى ترفض قبول هذا القلب المزروع.
بات من المؤكّد أنّ خريطة التحالفات لن تتغيّر كثيراً، فالدول الخليجية – أو ما يُعرف بمحور الاعتدال، وأنا أرغب بتسميتهم (محور الهرولة) – التي حوّلت وجهة الصراع من «إسرائيل» إلى إيران، أظهرت إلى العلن ما كان يحصل سراً من تنسيق ولقاءات مع الإسرائيليين، علماً أنه منذ نهاية القرن العشرين ولغاية اليوم، كان واضحاً للعيان أنّ الصراع مع «إسرائيل» اقتصر على جزء من الفلسطينيين وعلى لبنان وسورية، وخرجت الدول الأخرى من المساهمة المباشرة في الصراع، باستثناء بعض الدعم المادي للمجموعات الفلسطينية.
هذه الهرولة التي بدأنا نسمع مزايدتها على الكيان الصهيوني في العداء لمحور المقاومة ورأس حربته في لبنان، كلّ العالم سمع تصريح وزيرة خارجية الكيان الصهيوني «تسيبي ليفني» سنة 2006 حين قالت: «إنّ أية قوة في الكون لن تستطيع القضاء على المقاومة»، وهذا رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور يصرّح بالأمس على القناة 13 الصهيونية إلى ضرورة «أن تبادر إسرائيل إلى محو المقاومة في لبنان، ولو كلّف ذلك تدمير لبنان»، فهو يعتقد أن لا سبيل للسلم والأمن في منطقة الشرق الأوسط إلا بالقضاء على محور المقاومة وفي مقدّمته إيران، لا نعلم من أعطاه الحق في التكلم عن موضوع عقد السلام بين لبنان و«إسرائيل»، ومن أين جاء بادّعائه بأنّ أكثرية الشعب اللبناني تريد السلام مع الكيان الصهيوني، والمقاومة تقف حائلاً دون ذلك.
أخيراً، مهما جرى من شيطنة لمحور المقاومة والادّعاء بأنّ دوله هي دولٌ مارقة وخارجة على النظام العالمي، ومهما جرى من تطبيع وترويج للسلام المزيف، فإنّ قوة الحق العربي والفلسطيني هي التي ستسود في نهاية المطاف وليس حق القوة والبلطجة، ومن يعش يرى.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/11/24