حلال على "إسرائيل".. حرام على إيران
علي فواز
رغم التزام إيران التامّ بالمواثيق الدولية والمعاهدات الخاصَّة بإنتاج الطاقة النووية واستخداماتها مقابل امتناع "إسرائيل" عن ذلك، تبدو المقاربة من ناحية القانون الدولي في غاية الغرابة وأقرب ما تكون إلى البلطجة.
تمنح المعاهدات الدوليّة الدولَ حقّ إنتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية، ولا ريب في أنَّ امتلاك دولة ما دورة الإنتاج النوويّ يجعلها في مصاف الدّول المتطورة، نظراً إلى أهمية المشاريع النووية من الناحية الاقتصادية وتحقيق الاستقلال والاكتفاء الذاتي في العديد من المجالات، كما يعطيها موقعاً إقليمياً ودولياً وازناً في حال امتلاكها أسلحة نووية، نظراً إلى قدرتها الردعية.
لقد تعاملت الدّول الكبرى بمنطق ازدواجية المعايير مع المشروعين النوويين الإسرائيلي والإيراني، رغم أنَّ الأول يحمل سمات عسكرية واضحة، والآخر يحمل سمات سلمية ولا يوجد دليل على توجهاته العسكرية. رغم ذلك، تعرضت إيران للعقوبات والتضييق بقرارات أممية وأحادية، فيما تغاضت الدول الكبرى معظم الأحيان عن المشروع النووي الإسرائيلي العسكري، بل رعته.
المشروع النووي الإيراني
يرجع تاريخ انخراط إيران في الميدان النووي إلى خمسينيات القرن العشرين وستينياته، أي إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، إذ كانت خططه تقوم على أساس إنشاء 23 مفاعلاً نووياً لكي تكون جاهزة للعمل في منتصف التسعينيات. وفي سبيل ذلك، حاز الشاه دعم عدد من الدول، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا الغربية وغيرها.
قيام الثورة الإسلامية أدى إلى تعليق هذا المشروع، ليُستأنف بعد سنوات، ويصل في العام 2010 إلى إعلان الرئيس الإيراني نجاح إيران في تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، فكان ذلك حدثاً أدخل العالم والمنطقة في سجال ومفاوضات.
لقد أصدر مجلس الأمن الدولي ستة قرارات بشأن قضية إيران النووية، أربعة منها صادرة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وتفرض عقوبات ملزمة قانونياً عليها. هذه القرارات هي: القرار 1696 بتاريخ 31 تموز/يوليو 2006، القرار 1737 بتاريخ 23 كانون الأول/ديسمبر 2006، القرار 1747 بتاريخ 24 آذار/مارس 2007، القرار 1803 بتاريخ 3 آذار/مارس 2008، القرار 1929 بتاريخ 9 حزيران/يونيو 2010، وأخيراً القرار 2231 الذي تبنّى بموجبه مجلس الأمن بتاريخ 20 تموز/يوليو 2015 اتفاق "خطة العمل المشتركة" الذي تم التوصل إليه بين إيران ودول مجموعة "5+1" بتاريخ 14 تموز/يوليو من العام نفسه.
رغم تصريحات المسؤولين الإيرانيين المتكررة عن أنَّ مشروعهم النووي سلمي، ونفيهم القاطع حيازة أسلحة نووية، نجد أنَّ الدول الغربية سعت إلى التضييق على إيران (الجمهورية الإسلامية)، بينما تعاونت مع الشاه قبل الثورة، رغم تصريحه خلال زيارة لفرنسا في تموز/يوليو 1974، عندما قال: "سيكون لدينا سلاح ذري في مستقبل أقرب مما يتصوّره إنسان".
من الناحية الإيديولوجية والعقائدية، وتالياً السياسية، تستند الجمهورية الإسلامية في إيران إلى روح الشريعة الإسلامية، وتتبنى نظرية "ولاية الفقيه"، وتجعل "الولي الفقيه" أعلى سلطة في البلاد، لتأتمر كل السلطات والمؤسسات بتوجيهاته وبالفتاوى التي يصدرها. وقد أصدر المرشد الإيراني علي خامنئي فتوى واضحة بتحريم السلاح النووي.
أما من الناحية القانونية، فقد وقّعت إيران على معاهدة حظر الانتشار النووي والبروتوكول الإضافي، اللذين سمحا لكلّ دولة بامتلاك الطاقة النووية السلمية، ونصّا على واجب الدول النووية الكبرى تسهيل ومساعدة الدول على اكتساب هذه الطاقة.
وتجيز المعاهدة لإيران بناء أية منشأة نووية لتخصيب اليورانيوم، ولكنّها تفرض الإعلان عن وجودها، ووضعها تحت رقابة الوكالة، وتأكيد استعمالها لأغراض سلمية.
كلّ تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تحسم مسألة سعي إيران أو امتلاكها أو حيازتها سلاحاً نووياً. واليوم، تتعاون إيران بشكل كامل مع الوكالة، من دون أن توقف أنشطتها المشروعة، فمفتّشو الوكالة اليوم في إيران، وكل المنشآت تخضع لمراقبة المفتشين بشكل كامل، من خلال الرقابة المباشرة أو الفنية من خلال الكاميرات. ولم تثبت كلّ التقارير سعي إيران لامتلاك السلاح النووي، ولم تقدم قرينة عليه.
وفق القانون الدولي، لا توجد أي قرينة تدين إيران في هذا المجال. أفظع ما اكتشف هو أنها أخفت لسنوات تطور مشروعها النووي عن الوكالة، ولم تعلن عن بعض منشآتها بشكل كامل. أما الباقي، فتقارير غير موثقة بثتها وكالة الاستخبارات الأميركية أو المعارضة الإيرانية أو الموساد الإسرائيلي أو الإعلام الغربي، من دون أي دليل أو سند.
وانطلاقاً من منظار قانوني بحت، يعتبر برنامج إيران النووي برنامجاً سلمياً ومشروعاً من الناحية القانونيّة، ومتلائماً مع ما نصَّت عليه معاهدة عدم الانتشار النووي للعام 1968، ولا يخالف نصوص المعاهدة.
المشروع النووي الإسرائيليّ
كان دافيد بن غوريون هو المبشّر الأول بفكرة المشروع النووي الإسرائيليّ، حين تبنّى في الخمسينيات الدعوة إلى تطوير خيار نووي مستقلّ، واعتبر ذلك قضية مقدسة من أجل البقاء، بل "بوليصة" التأمين النهائية لـ"إسرائيل".
إلى اليوم، ترفض "إسرائيل" التّوقيع على معاهدة الحظر الشامل للانتشار النووي، وهي في هذا الإطار تقدّم أسباباً متعلقة بأمنها ومستقبلها في المنطقة، وقد أبرزت عدداً من التحفّظات والانتقادات على المعاهدة.
منذ العام 1968، رفضت "إسرائيل" التوقيع والانضمام إلى المعاهدة بدعم أميركي مباشر، وأصبح عالم الردع العسكري غير التقليدي هاجساً لكل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 1949.
ولا تزال "إسرائيل" الوحيدة في المنطقة التي لم تنضمّ بعد إلى تلك المعاهدة، ولا تزال ترفض إخضاع جميع منشآتها النووية للضمانات الشاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رغم القرارات العديدة الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تدعوها للانضمام إلى المعاهدة من دون إبطاء، وإلى عدم تطوير أو إنتاج أو اختبار أو الحصول على أسلحة نووية بأية صورة.
لقد باتت حيازة "إسرائيل" للسلاح النووي أمراً واقعاً ومسموحاً به بقوة المعايير السياسية السائدة حالياً، وآخر ما تسأل عنه هو الموقف القانوني والدولي من مشروعها النووي، وخصوصاً أنها تحظى بغطاء أميركي وغربي واضح.
ولم تكتفِ الإدارات الأميركيّة المتعاقبة بعدم مطالبة "إسرائيل" بالتوقيع على تلك المعاهدة، بل ذهبت تلك الإدارات، بما فيها إدارة جورج بوش الابن، إلى أبعد من ذلك حين أشارت أكثر من مرة إلى تفهّم واشنطن امتلاك "إسرائيل" أسلحة غير تقليدية. ومن الأمثلة على ذلك، تصريحات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الصّريحة، عندما رفض الإعلان عن امتلاك "إسرائيل" لسلاح نووي "من دون ذكر المخاطر التي تهدّدها"، وذلك خلال المؤتمر الثامن لمراجعة معاهدة حظر الانتشار في العام 2010.
لقد تحدّت "إسرائيل" بشكل سافر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 487 الصادر في حزيران/يونيو 1981، والذي طلب منها أن تخضع على نحو عاجل جميع مرافقها النووية لضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 18 أيلول/سبتمبر 2009 قراراً يدعو "إسرائيل" إلى التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وفتح منشآتها للتفتيش الدولي، لكن من دون أن تلقى أيّ اهتمام إسرائيلي.
ومن جديد، دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة "إسرائيل" في كانون الأول/ديسمبر 2009 إلى أن تنضمّ إلى المعاهدة عندما أصدرت قراراً بعنوان "حظر الانتشار النووي في الشرق الأوسط". ورغم أن 167 دولة صوَّتت لصالح القرار، فإن "إسرائيل" لم ترضخ له. كما تخلّفت عن القمة النووية في العام 2010 في واشنطن، خوفاً من إحراجها أمام العالم.
وتؤكّد تقارير الأمم المتحدة أنَّ "إسرائيل" لم تعطِ المجتمع الدولي أية تأكيدات عن طبيعة استفادتها من منشآتها النووية التي لم يُسمح للمفتشين الدوليين بزيارتها.
اليوم، بات بحكم المؤكّد أن "إسرائيل" تمتلك ترسانة ضخمة من أسلحة الدمار الشامل، وتمتلك خياراً نووياً يتضمن تصنيع القنابل والرؤوس النووية، بمعزل عن أيّ رقابة أو التزام بالميثاق الدولي الخاص بمنع انتشار السلاح النووي (المبرم في العام 1968).
ما الدليل على ذلك؟
قبل استعراض الأدلّة، من المهمّ أن نشير إلى سياسة الغموض النووي التي تعتمدها "إسرائيل" في هذا المجال، وهي تقوم على الصمت والتضليل هرباً من الضغوط، بدعوى أنَّ سياسة الغموض تتمتَّع بمزايا عدة، ولا تنطوي على الأخطار الكثيرة وعلى الكلفة التي تصاحب تحويل الأسلحة النووية إلى أسلحة علنية. هذه السياسة، في نظر "إسرائيل"، هدفها دفع الآخرين إلى أن يستخلصوا بأنفسهم بأنّ لدى "إسرائيل" خياراً نووياً، ما يحقّق لها سياسة الردع من دون تحمّل الكلفة.
لقد بات السلاح النووي الإسرائيلي أكبر سرّ معلن في العالم، على حدّ تعبير صحيفة "الإيكونوميست" البريطانية. ما يدلّ على وجود هذا السلاح هو أن المشروع النووي الإسرائيلي يخضع لإشراف المؤسسة العسكرية وإدارتها في جوانب أساسية منه، إضافة إلى الدور الأساسي للعسكريين في المؤسَّسات السياسية الإسرائيلية التي تتخذ القرار المتعلّق بالسياسة النوويّة.
ورغم الإشارات التي تبرز بين فترة وأخرى في الصحف ومراكز الأبحاث الغربية والإسرائليلة على حدّ سواء، وتؤكد امتلاك "إسرائيل" أسلحة نووية متطورة، ولكن سرعان ما تنفي الدوائر الإسرائيلية المختلفة ذلك، للإبقاء على سياسة الشك التي اتبعتها في هذا المجال منذ أكثر من ستة عقود.
وأبرز ما سُرّب في هذا المجال تأكيد فريق صحافي من "الصنداي تايمز" في أوائل التسعينيات، أنّ مردخاي فعنونو، الفني الإسرائيلي الذي حكم عليه في "إسرائيل" بالسجن لمدة 18 عاماً، أكّد عبر صور ووثائق أنَّ "إسرائيل" تمتلك بين 100 و200 رأس نووي بقدرات تدميرية متفاوتة.
وفي العام 1977، نقلت صحيفة "يديعوت أحرنوت" عن الجنرال الفرنسي جورج بوئيه قوله في مقابلة مع إذاعة "أوروبا 1" الفرنسيّة أنَّ "إسرائيل" أصبحت تمتلك الوسائل المطلوبة لإنتاج قنبلتين ذرتين في السنة، كما أصبحت تمتلك 13 قنبلة ذرية، إضافةً إلى الوسائل المطلوبة لنقلها إلى أهدافها.
وفي العام 1978، ذكرت "يديعوت أحرنوت" أنَّ محطة إذاعية في نيويورك أذاعت تقريراً سرياً موثّقاً بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر 1974، أعدَّته وكالة الاستخبارات الأميركية، جاء فيه: "إننا نعتقد أنَّ إسرائيل صنعت فعلاً أسلحة ذرية".
كما جاء التّأكيد بواسطة "معاريف" بتاريخ 2 آذار/مارس 1978، نقلاً عن كارل داكت الذي كان يشغل ثالث منصب من حيث الأهمية في وكالة الاستخبارت الأميركية، وقد أدلى بشهادة أمام لجنة التنسيق الوزارية للشؤون الذرية في أميركا، جاء فيها أن الوكالة أبلغت الرئيس جونسون بأنّ "إسرائيل" تمتلك أسلحة ذرية، وأنَّ الأخير أمر بعدم إبلاغ أي شخص آخر بهذا الأمر (عمر إبراهيم الخطيب، القنبلة الذرية العربية والمواجهة النووية مع إسرائيل، سلسلة دراسات الخليج للدراسات العربية).
وعلى هامش القمة النووية في واشنطن في العام 2010، والتي تهرّبت "إسرائيل" من حضورها، كشفت مجلّة "جينز" للشؤون العسكرية أنّ خبراءها يعتبرون "إسرائيل" القوة النووية السادسة في العالم، رغم عدم اعترافها بامتلاك أسلحة نووية.
ومن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تؤكد امتلاك "إسرائيل" للسلاح النووي أو السعي إليه، نقتبس في هذا الشأن ما قاله بن غوريون مخاطباً العلماء اليهود المهاجرين من ألمانيا: "أريد منكم أن تهتموا منذ الآن بالأبحاث الذرية، وبإنجاز كلّ ما يمكن إنجازه من أجل تزويد الدولة اليهودية المنشودة بأسلحة نووية".
كذلك خطاب شمعون بيريز في الكنيست في العام 1966: "لا أرى سبباً لإقدام إسرائيل على طمأنة عبد الناصر من هذا المنبر، والسماح له بأن يعرف ما نفعله أو ما لا نفعله. إنني أعرف أن العرب يشكّون في نياتنا النووية، وأعرف أن هذا الشيء قوّة رادعة، فلماذا نخفّف من هذه الشكوك؟ ولماذا نعمل على إيضاحها؟".
قانون القوة لا قوة القانون
شهد القرن الواحد والعشرون بروز مبدأ نووي جديد، وهو "الهجوم النووي التكتيكي"، حتى إنَّ بعض الدول الكبرى هدد باستخدامه. ففي أوائل القرن الواحد والعشرين، هددت روسيا باستخدام الأسلحة النووية ضد حلف الناتو، في حالة هجوم تقليدي لا تستطيع القوات الروسية أن تتعامل معه، وذلك عندما اقترب حلف الناتو من الحدود الروسيّة.
وفي العام 2002، صدرت تصريحات عن جنرال في الجيش الصيني أشار فيها إلى أنَّ بلاده على استعداد لاستخدام الأسلحة النووية في حالة وقوع هجوم أميركي ضدها في إطار النزاع حول تايوان.
وفي العام 2005، هدَّد الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأنَّ بلاده قد تستخدم الأسلحة النووية ضدّ دول تستخدم وسائل إرهابية ضد فرنسا، من دون أن يحدّد الدول التي قد تكون غير نووية.
وفي العام 2012، وضعت الولايات المتحدة خطة الطوارئ التي أعدتها وزارة الدفاع الأميركية تحت عنوان "إعادة تقييم الوضع النووي"، والتي اعتبرت أساساً لسياسة نووية أميركية جديدة، وأحدثت انقلاباً نووياً حقيقياً في هذا الاتجاه، فنصَّت على إمكان استخدام الأسلحة النووية فعلياً في ظلّ أهداف وسيناريوهات محددة، فضلاً عن تهديد الرئيس الأميركي باراك أوباما في العام 2010 باستخدام السّلاح النوويّ ضدّ الخطر الإيراني.
لقد معلوماً بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران ثم انسحاب إدارة دونالد ترامب منه مروراً بشواهد لا تعد ولا تحصى بأن العالم يخضع لقانون القوة لا قوة القانون، وأن الهدف الحقيقي من وراء استهداف البرنامج النووي الإيراني هو وضع عراقيل أمام تحقيق طهران لسيادتها واقتدارها واستقلالها العلمي والتكنولوجي نظراً إلى ما يحققه امتلاك دورة الإنتاج النووي لأغراض سلمية من تطوّر في ميادين مختلفة، الأمر الذي يكفل عدم الخضوع لابتزاز الدول الاستعمارية ويحول دون التبعية المذلة لمصالحها وسيطرتها.
لصالح موقع الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/12/04