«متّحدون ضدّ التطبيع»... بين الواقع والمواجهة الشعبيّة
معن بشور
كانت مواجهة التطبيع حالة مستمرة منذ بداياته، إثر معاهدتَي كامب ديفيد (1979) ثم تجدّده بعد معاهدتَي أوسلو (1993) ووادي عربة (1994)، كما كانت مستمرة أيضاً مهمة القوى الشعبية العربية التي أدركت أن النجاح الحقيقي لمؤامرة التطبيع مع العدو الصهيوني، لا يتحقق إلا إذا تمكّن «التطبيع» من اختراق النسيج الشعبي على مستوى الأمة وعبر كل الوسائل المتاحة، اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً وفنياً واجتماعياً ورياضياً، لأن العدو وداعميه يسعون لأن يصبح الكيان الغاصب كياناً طبيعياً وسط أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، إدراكاً منهم أن التطبيع على مستوى الحكومات لا يكفي لتحقيق هذه الغاية.
وفي هذا الإطار نسجل للحركة الشعبية العربية بكل تياراتها نجاحاً، إمّا في إفشال مشروع التطبيع على المستوى الشعبي في موجته الأولى كما رأينا في مصر والأردن وفلسطين، أو في إسقاطه تماماً كما رأينا مع اتفاق 17 أيار في لبنان 1983، أو مع طرد السفارة الصهيونية وجرف مبناها في موريتانيا عام 2010، كما في اضطرار دول عربية لإغلاق مكاتب اتصال للعدو في عواصمها بفعل الهبّة الشعبة العربية الواسعة التي رافقت انتفاضة الأقصى المبارك في 28 سبتمبر/ أيلول عام 2000.
وإذا كانت تجربة المواجهات الشعبية للتطبيع في العديد من أقطار أمتنا العربية تتضمّنها أوراق خاصة تُقدم في هذه الجلسة، غير أنه لا بدّ من التأكيد على عناوين كبرى للحراك الشعبي العربي في مواجهة التطبيع على مدى أكثر من أربعين عاماً.
العنوان الأول: إن المراحل الأولى لمؤامرة التطبيع في البلاد التي وقّع حكامها اتفاقات تطبيع مع العدو سواء في مصر أو الأردن أو فلسطين قد شهدت فشلاً ذريعاً على المستوى الشعبي، ما يؤكد أنه إذا كان التطبيع خيار حكومات فهو بالتأكيد مجافٍ لإرادة الشعوب.
العنوان الثاني: إن الموجة الثانية من التطبيع التي أراد العدو وحلفاؤه إطلاقها بعد غزو لبنان واحتلال أجزاء واسعة من أراضيه عام 1982، ليكون لبنان الدولة الثانية بعد الدولة المصرية التي تدخل نفق التطبيع المظلم مع العدو، وبرعاية أميركية أيضاً في اتفاق 17 أيار، قد سقطت تماماً أمام إرادة الشعب اللبناني وانتفاضة قادته وقواه الوطنية والإسلامية ومقاومته الباسلة ودعم الدول الشقيقة والصديقة كسوريا وإيران والتي كان أول ثمارها إسقاط تلك الاتفاقية قبل أقلّ من عام على إقرارها من قبل مجلس النواب اللبناني.
العنوان الثالث: إن الموجة التطبيعية التي رافقت اتفاقَي أوسلو (1993) مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ووادي عربة (1994) مع الحكومة الأردنية، وأرادت أن تنقل التطبيع إلى الوطن العربي كله تنفيذاً لرؤية شيمون بيريز حول «الشرق الأوسط الجديد» وتمثّلت تلك المحاولة بفتح مكاتب اتصال للعدو في عدد من العواصم العربية، في المغرب والخليج، وفي عقد مؤتمرات «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» التي انعقدت في القاهرة وعمان والدار البيضاء في عامَي 1993 و 1994، فيما كان مطلوباً عقد المؤتمر الرابع في الدوحة، لكن تصاعد الاعتراضات الشعبية من جهة وموقف بعض القادة العرب (سوريا، مصر والسعودية) حالا دون انعقادها، فيما نجحت انتفاضة الأقصى المبارك في إغلاق «علني» لمكاتب الاتصال في الدول التي تم فتحها فيها ( وأقول «علني» لأن البعض منها بقي يعمل بشكل سري)، بل أدى الأمر بعد الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة إلى انتفاضة الشعب الموريتاني ضد العلاقات الدبلوماسية التي أقامتها الحكومة مع العدو الصهيوني إثر حرب الخليج الأولى عام 1991، ما أدى إلى قطع العلاقات وإلى اقتلاع سفارة الكيان الصهيوني في نواكشوط من أرضها للتأكيد على أن لا مكان لها في موريتانيا إلى الأبد....
العنوان الرابع: جرت موجات تطبيعية متناثرة على مستويات غير سياسية (فنية، ثقافية، إعلامية، رياضية، اجتماعية) من أجل فتح ثقوب في جدار المقاطعة الشعبية العربية، لكنها كانت تواجه بقوة داخل كل قطر عبر هيئات مناهضة للتطبيع والمراصد المتعددة التي قامت في دول المغرب العربي والائتلافات المناهضة للتطبيع في دول الخليج، فخرجت مبادرات فردية رافضة من رجال ونساء وأطفال، ومن مثقفين وإعلاميين ونقابيين وعلماء في أكثر من قطر عربي عبّرت عن الضمير الجماعي العربي من التطبيع...
العنوان الخامس: الموجة التطبيعية الراهنة التي نعتبرها أحد أهم مخرجات «صفقة القرن» بل إحدى أبرز أدوات تنفيذها خلافاً لإرادة الأمة، بل حتى بشكل مناف للإجماع الرسمي العربي الذي اشترط في مبادرة قمة بيروت 2002 (رغم تحفّظنا كقوى شعبية عليها) أن يتم التطبيع مع العدو بعد انسحابه الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967.
إن توسيع جبهة المناهضة للتطبيع لا تنفصل عن مشروع ترميم الجسور بين تيارات الأمة وقواها الحية في إطار كتلة تاريخية جامعة
في مواجهة هذه الموجة تخوض الأمة اليوم أبرز معاركها، سواء عبر القوى الوطنية والإسلامية في فلسطين، أو على مستوى الأمة وأحرار العالم، ولعلّ في انعقاد مؤتمرَي «متحدون ضد صفقة القرن» اللذين انعقدا في حزيران/ يونيو، وتموز/ يوليو 2019 في بيروت، وبدعوة من الهيئات ذاتها الداعية إلى مؤتمرنا هذا، تعبيراً عن إجماع شعبي عربي، يضم معظم مكوّنات الأمة ومشاربها الفكرية والسياسية، على مناهضة «صفقة القرن» ومخرجاتها وفي مقدمها التطبيع... وهو ما تكرر في «المؤتمر الافتراضي» الذي انعقد أيضاً بمبادرة من «المؤتمر القومي العربي»، و «المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن»، وشارك فيه المئات من الهيئات والشخصيات العربية الفاعلة في مجتمعاتها، الذي وضع برنامج عمل لمواجهة التطبيع، حيث بدأ يأخذ شكل مسلسلات تلفزيونية، وزيارات اقتصادية تمهّد لما رأينا من اتفاقات «ابراهيمية» للتطبيع مع العدو في غير قطر عربي، والتي يشكل مؤتمرنا محاولة لتفعيل الرد الشعبي عليها.
أهمية دور الحركة الشعبية العربية في مناهضة التطبيع
من خلال استعراض المراحل التي مرّت بها مسيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني في بلادنا، نلاحظ أن السدّ الرئيسي في مواجهة موجات التطبيع المتلاحقة كان، ولا يزال، في الحركة الشعبية المواجهة للتطبيع المستندة إلى إرادة المقاومة وحركتها في الأمة، والتي كانت ثمرة جهود مشتركة من معظم القوى والتيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية في الأمة، التي باجتماعها تتعزز وحدة الأمة وقدراتها وبتشرذمها يتسلل الأعداء ومخططاتهم، وفي مقدمها التطبيع، إلى قلب النسيج العربي.
ومما لا شك فيه أن السنوات العشر الماضية وما شهدته من انقسام فلسطيني، ثم انقسامات عربية واكبت ما سُمي «الربيع العربي»، قد انعكست سلباً على مجمل التحركات الشعبية العربية، سواء بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، أو إلى القضايا المتصلة بها، أو إلى القضايا العربية عموماً، فبات كل قطر مشغولاً بأوضاعه الذاتية وبحروبه الداخلية، ناهيك بما كانت تواجهه الحركة الشعبية العربية أساساً من قمع وقهر واضطهاد على يد السلطات، ومن طغيان العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية على القضايا الوطنية والقومية الجامعة بالإضافة إلى تفشٍّ مخزٍ للأنانيات الفردية أو الفئوية، وللذاتيات المتضخمة على مستوى التيارات والتنظيمات والقادة، فبلغ تغليب المصلحة الشخصية أو الحزبية أو الفئوية على المصالح العليا للأمة بأسرها حداً غير مسبوق ساهم في تخريب العديد من المبادرات الجامعة.
بالتأكيد، لم يخلُ الأمر من محاولة بقيت تسبح عكس التيار، وتسعى من ضمن ما هو متاح لها، وقد بات المتاح محدوداً جداً، أن تواصل حمل الشعلة بانتظار لحظة يجري فيها تجاوز الانقسام وتتراجع فيها فكرة قدرة الحكام على القمع والاضطهاد.
ولا بدّ من أن نسجل وقفات فردية وجماعية في العديد من أقطار الأمة (سيتم تفصيلها في الأوراق الخاصة من بعض الأقطار التي شهدت اتفاقات تطبيعية في هذه الجلسة) أكدت أن نبض الأمة ما زال حيّاً، وأن إرادة المقاومة ما زالت متوهّجة، وأن مواجهة العدو في أكثر من ساحة قد حقّقت أكثر من نجاح عبر صمود المقاومة في أكثر من قطر.
من هنا فإن توسيع جبهة المناهضة للتطبيع لا يمكن أن ينفصل عن جبهة ترميم الجسور بين تيارات الأمة وقواها الحية في إطار كتلة تاريخية جامعة توقف التراجع الحاصل في الواقع الشعبي العربي، وهو تراجع بات يشكل مع التخاذل الرسمي العربي البيئة الأفضل لكل دعوات الانهزام والاستسلام أمام هذا العدو.
وفي هذا الإطار نقترح على مؤتمركم الكريم الأمور التالية:
1- السعي لتجاوز كل انقسام على المستوييْن: الشعبي والسياسي بين كل القوى المناهضة للتطبيع وللاستسلام للمشروع الصهيو – استعماري وهو سعي ينطلق من قاعدة بسيطة هي أن نلتقي جميعاً حول قضايانا الكبرى وفي مقدمها قضية فلسطين وأن يعذر بعضُنا بعضاً في ما نختلف عليه من قضايا، فندخل إلى خلافاتنا من باب المساحة المشتركة لنتجاوزها، بدلاً من الدخول إلى هذه المساحة المشتركة من بوابة الاختلاف والصراع والتناقضات فنحبطها.
2- السعي للتنسيق بين كل الهيئات والمراصد القائمة لمناهضة التطبيع في إطار تنسيقية عربية جامعة لمناهضة التطبيع ومقاومة المشروع الصهيوني لا تستثني أحداً من هذه القوى والهيئات، كما تسعى لتشكيل هيئات ومراصد متعددة في الأقطار التي لا توجد فيها مثل هذه المراصد والهيئات.
3- التأكيد على أن المقاومة بكل أشكالها، ولا سيما المسلّحة هي الوسيلة الأفعل والأسلم والأسرع لدحر المحتل، وأن الدفاع عن المقاومة كخيار ونهج وسلاح وثقافة في وجه الهجمات التي تتعرّض لها هو مهمة لا تنفصل عن مهمة مناهضة التطبيع التي هي الوجه الآخر لمقاومة الاحتلال.
4- السعي لإطلاق ورش عمل متخصّصة حول الجوانب المتعددة لمناهضة التطبيع من سياسية ودفاعية واقتصادية وثقافية وإعلامية ونفسية وتربوية ورياضية وإعداد خطط متكاملة لمواجهة التطبيع على كل صعيد.
5- السعي لتنظيم يوم واحد على مستوى الأمة باسم «متحدون ضد التطبيع» يتضمّن فعّاليات شعبية ونقابية وثقافية وفنية ورياضية تؤكد وحدة الأمة ضد التطبيع وما يتصل به من مخططات ومؤامرات.
6- السعي لإنهاء كل الحروب والصراعات الدموية القائمة في غير قطر من أقطار الأمة عبر مصالحات وطنية شاملة ترفض أي استقواء بالخارج ، ولا سيّما الدول الاستعمارية في الصراعات الداخلية، وترتكز إلى مراجعة جريئة وشاملة لكل التجارب والسياسات والممارسات التي ثبت خطؤها وتسعى لتوجيه طاقات المجتمع العربي نحو بناء دول قوية وقادرة وعادلة وديمقراطية، بل نحو تكامل سياسي ودفاعي واقتصادي وثقافي على مستوى الأمة.
7- تكريم كل مبادرة فردية أو جماعية تكرّس نهج مناهضة التطبيع على مستوى الأمة كلها، واعتبار أصحاب هذه المبادرات رموزاً يتم عبرهم تشجيع مبادرات مماثلة، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى الحكومات والبرلمانات التي تأخذ مواقف حاسمة من التطبيع.
8- دعوة البرلمانيين من أعضاء المؤتمر إلى التعاون مع هيئات مناهضة التطبيع في بلادهم وللسعي لإقرار تشريعات تجرّم التطبيع في بلادهم، ولا سيّما أن هناك أكثر من مشروع موجود في بعض البرلمانات العربية.
9- دعوة الاتحادات العربية المشاركة في هذا المؤتمر إلى تشكيل لجان نقابية على مستوى الاتحاد، أو مستوى النقابات الوطنية لمناهضة التطبيع والتنسيق مع النقابات المماثلة داخل فلسطين لوضع البرامج المعنيّة بكل اتحاد أو نقابة.
10- دعوة الإعلاميين المشاركين في المؤتمر إلى التنسيق مع زملائهم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ولإعطاء ثقافة المقاومة ومناهضة التطبيع ما تستحقّه من اهتمام في برامجها المتعددة.
11- دعوة الأدباء والفنانين المشاركين في المؤتمر، بكل مستوياتهم، إلى التواصل مع زملائهم لإعداد فعّاليات سينمائية وغنائية وأمسيات شعرية وأدبية، تخدم فكرة مناهضة التطبيع.
12- دعوة الهيئات الاقتصادية العربية، من خلال الاقتصاديين المشاركين في المؤتمر إلى إعداد الخطط الاقتصادية القادرة على مواجهة التطبيع، وإعداد ما يلزم من دراسات في هذا الاتجاه.
13- السعي لتفعيل مكاتب المقاطعة العربية في الأقطار العربية كافة ومواجهة كل العوائق في وجهها.
14- دعوة المؤسسات المعنيّة بالشأن الثقافي لوضع الخطط والآليات والأدوات التي تهدف إلى تحصين ثقافتنا الوطنية والقومية في وجه محاولات الاختراق والتطبيع والغزو الثقافي.
15- الاهتمام بتطوير وتوسيع آليات التواصل مع شباب الأمة وأطفالها بما فيها الإنتاج الثقافي والإعلامي المخصّص لهم من أجل أن تمتلك الأجيال الجديدة المعرفة والوعي لسياسات التطبيع ومخاطره على هوية الأمة وشخصيتها وهويتها ومستقبلها.
16- إطلاق حملة تضامن ومساندة واسعة لمنظمة B.D.S. للمقاطعة داخل فلسطين وخارجها والسعي لكشف محاولات قمعها من قبل بعض السلطات الغربية.
صحيفة الاخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2021/02/25