تقرير خاشقجي: الحقائق لا تغير السياسات
د. سعيد الشهابي
من المؤكد أن شخصية الرئيس الأمريكي لها تأثيرها على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولكن ضمن الدائرة العامة لتلك السياسة، وهي دائرة تتسع لبعض الاجتهادات والمبادرات من قبل الرئيس ووزير الخارجية.
ومن المتوقع أن يكون للرئيس جو بايدن مسار يختلف عن سياسات دونالد ترامب، تماما كما كانت سياسات أوباما تختلف عن سياسات جورج بوش. ولكن هذه الاختلافات تقع ضمن الدائرة المرسومة للعلاقات الخارجية الأمريكية من قبل المؤسسة الحاكمة أو الدولة العميقة. لذلك يتوقع أن تختلف السياسات الأمريكية الجديدة تجاه الشرق الأوسط شكلا وليس مضمونا عما تتضمنه سياقات تلك السياسة التي وضعت أسسها بعد الحرب العالمية الثانية. فما تم إقراره على ظهر الباخرة العسكرية، كوينسى في مثل هذه الأيام قبل 76 عاما بين الرئيس الأمريكي روزفلت والملك عبد العزيز بن سعود لن يتغير كثيرا. وستظل السياسة الأمريكية في المنطقة قائمة على أسس عديدة من بينها التحالف الاستراتيجي مع السعودية. هذا لا يعني أن واشنطن لن تختلف مع بعض رموز الحكم السعودي، فالأشخاص يتناوبون على المناصب، وتبقى السياسة العامة ثابتة. وما يضفي على رئاسة بايدن أهمية خاصة أنها جاءت بعد رئاسة ترامب الذي أكدت استطلاعات الرأي العام أنه كان أسوأ رئيس في التاريخ الأمريكي المعاصر.
ولا شك أن قرار ترامب «حماية» محمد بن سلمان، بمنع الكشف عن تقرير الـ «سي آي أيه» عن دوره في قتل الصحافي جمال خاشقجي، ساهم في زيادة الاهتمام بقرار إدارة بايدن إلغاء ذلك المنع. يضاف إلى ذلك أن ذلك الكشف لم يضف كثيرا للحقائق المعروفة التي كانت السلطات التركية قد كشفتها تلميحا أو تصريحا. فلم يكن هناك لدى الرأي العام العالمي أو السياسيين شك في أن ما حدث في الثاني من تشرين الأول-اكتوبر 2018 داخل مبنى القنصلية السعودية في اسطنبول كان بأمر مباشر من ولي العهد السعودي. ولم تؤثر على تلك القناعة المحاكمات الصورية لعدد من عناصر الأمن السعودي او اعلان محمد بن سلمان نفسه تحمله مسؤولية ما حدث. فمن يعرف طبيعة النظام السعودي يدرك أن هذا العمل الخطير الذي تجاوز الأعراف الدبلوماسية وعرَّض سمعة المملكة للتشويه لا يمكن أن يقوم به عناصر أمنية «مارقة». ولو كان الأمر كذلك لقطعت رقاب الأفراد الذين تظاهر النظام باتهامهم وأجرى لهم محاكمات صورية، ثم أفرج عن معظمهم.
لعل ما سبق الكشف عن التقرير يشير إلى التفاعلات المحتملة لأي تغير في الموقف الأمريكي المستقبلي إزاء أكبر حليف استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. في البداية كانت هناك تصريحات بايدن خلال حملته الانتخابية أكد فيها عزمه على الاهتمام بقضية خاشقجي ملمّحا لاتهام المتورطين فيها. وتضمنت تلك التصريحات أنه سيتعامل مع السعودية كـ «دولة مارقة» بسبب قضية خاشقجي. يضاف إلى ذلك تأخر بايدن في الاتصال مع الملك السعودي أكثر من خمسة اسابيع بعد تسلمه الرئاسة.
مع أن عودة واشنطن لاتفاقية باريس للمناخ نقطة إيجابية لكنها مطالبة بإعادة النظر في سياساتها التصنيعية أساسا وتقليص انبعاث الغازات التي تدمر البيئة
ويبدو أن الاتصال الذي تم الأسبوع الماضي واستبعد عنه محمد بن سلمان كان دبلوماسيا جدا ولم يتطرق لقضايا تفصيلية، بل أعاد التأكيد على «العلاقات الاستراتيجية» بين واشنطن والرياض وضرورة تعميقها بطرق أخرى تأخذ بعين الاعتبار قضايا حقوق الإنسان ولو شكلا. وكان بايدن قد كرر القول بضرورة إعادة مسار العلاقات لما يتناسب مع مصالح البلدين او ما أسماه «معايرة» تلك العلاقات، ومنعها من السير على طريق يؤدي للتباعد والشقاق بين الطرفين. وقد استبقت السعودية ذلك ببعض الاجراءات الشكلية من بينها إطلاق بعض الناشطات، ولكنها اعتقلت آخرين ايضا. ولا شك أن السياسة الخارجية الأمريكية في عهد بايدن ستكون محل تمحيص ومراقبة خصوصا من قبل نشطاء حقوق الإنسان. ويتوقع أن يتواصل الضغط على واشنطن وحلفائها من قبل نشطاء دول الخليج خصوصا في السعودية والإمارات والبحرين. فقضية خاشقجي ستظل مصدرا للاختلاف بينهما، ولكن المسألة لن تتوقف عند هذا الحد، بل سيتواصل الضغط لإصلاح النظام السياسي في بلد يفتقر لأدنى مقومات العدالة والحكم الحديث المؤسس على الشراكة مع المواطنين. وسيتواصل الضغط على بايدن لاتخاذ إجراءات، ضمن الملف الحقوقي، ترتبط بقضايا المرأة في الإمارات، خصوصا بعد تصاعد الحديث عن سوء معاملة لطيفة بنت الشيخ محمد بن راشد المكتوم.
وفي الأسبوع الماضي حثت لطيفة الشرطة البريطانية على إعادة فتح ملف اختطاف إحدى أخواتها قبل عشرين عاما من مدينة كامبريدج وإعادتها إلى دبي. وهناك قضية سجناء الرأي في الإمارات التي فضلت أمريكا حتى الآن غض الطرف عنها.
أما البحرين فيتوقع أن يهرع النشطاء الحقوقيون للضغط على إدارة بايدن لتغيير المسار الذي اتخذه ترامب، والذي أدى لتكثيف قمع النشطاء السياسيين والحقوقيين.
ويتوقع التركيز على قضية قادة الثورة الثلاثة عشر المعتقلين منذ عشرة أعوام نظرا لما تمثله من اضطهاد حقيقي لا يليق بدولة مدعومة من واشنطن ولندن ممارسته.
ثمة حقيقة يجدر بالنشطاء من كافة البلدان الالتفات لها. فالرئيس بايدن لن ينقلب على ثوابت السياسة الأمريكية التي دأبت على دعم حلفائها في المنطقة وفي مقدمتهم «إسرائيل» ودول مجلس التعاون خصوصا السعودية. ثانيها: أن ملفي الديمقراطية وحقوق الإنسان قد يحظيان بشيء من الأهمية لدى بايدن وفريقه، ولكنهما لن يقفزا ليتصدرا قائمة الأولويات في السياسة الخارجية الأمريكية او الأوروبية. وسيكون العمل الميداني هو الأساس للتغيير خصوصا في بلدان الثورات العربية. ثالثا: أن بايدن يبدو حتى الآن مترددا في قضية لا تقل أهمية، وهي حرب اليمن التي تعتبر أمريكا وبريطانيا شريكين فاعلين فيها سواء بإرسال الخبراء العسكريين ام بالاستمرار بتزويد الأطراف المشاركة فيها بالأسلحة. فبرغم إشاراته المتعددة لذلك إلا أنها ما تزال محصورة بالتصريحات ولم تتحول إلى سياسات ومواقف عملية. رابعا: أن واشنطن تواجه ملفات مهمة عديدة منها العلاقات مع الاتحاد الأوروبي السياسية والاقتصادية، والموقف من الصين التي يتوسع نفوذها الاقتصادي عالميا والعسكري كذلك. كما أن نفوذها السياسي في إفريقيا والشرق الأوسط يمثل تحديا لواشنطن التي لم تستطع مواكبتها خصوصا بعد انتشار الوباء الحالي. فقد غزت الصين بلدان العالم بلقاحاتها بينما ما يزال الغربيون يناقشون تلك اللقاحات التي لم يوفروها حتى لمواطنيهم بالمعدلات المطلوبة.
خامسا: أن أمام واشنطن ملفات كبيرة وخطيرة تجاهلها ترامب ومنها قضايا البيئة وتداعياتها والتفاعلات الدولية معها وانعكاساتها العملية على المناخ العالمي الذي تعيش أمريكا تداعياته الكبيرة. ومع أن عودة واشنطن لاتفاقية باريس للمناخ نقطة ايجابية لكنها مطالبة بإعادة النظر في سياساتها التصنيعية أساسا وتقليص انبعاث الغازات التي تدمر البيئة. وهناك قضايا الاقتصاد والاتفاقات الدولية بشأنه ودور منظمة التجارة العالمية التي تتحسس أمريكا منها. يضاف إلى ذلك قضايا حقوق الإنسان التي تجاهلها ترامب وسعى لإضعاف الجهات المهتمة بها خصوصا مجلس حقوق الإنسان. وأخيرا هناك قضايا سباق التسلح والتصنيع العسكري، خصوصا مع وجود دعوات متواصل لتنقية العالم من أسلحة الدمار الشامل خصوصا السلاح النووي.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2021/03/01