جرائم الاستعمار الأميركي في أفغانستان وإعادة «التموضع»…!
د. جمال زهران
انتهيت في مقالي السابق، بعنوان: «الرحيل الرابع لأميركا… في نصف قرن»، إلى أنّ أهمّ سببين لهذا الرحيل الرابع من أفغانستان، بعد الرحيل من فيتنام ثم لبنان ثم الصومال، هما: الأول: يتعلق باستمرار المقاومة من الشعب الأفغاني لمدة عشرين سنة بلا انقطاع، والثاني: يتعلق بحجم التكلفة الاقتصادية الضخمة التي اعترف بها «بايدن» في كلمته بعد سقوط العاصمة «كابول» في أيدي المقاومة الأفغانية بقيادة حركة «طالبان»، أنها بلغت نحو تريليون (ألف مليار) دولار، على حين يقدّرها الخبراء العسكريون والاقتصاديون، أنها بلغت نحو (3) تريليون دولار! الأمر الذي سبّب أوجاعاً اقتصادية لأميركا الداخل، خاصة بعد وباء كورونا الذي أنهكها ـ ولا يزال ـ اقتصادياً أيضاً. فأضحى الخيار الصائب استراتيجياً إنقاذاً للوضع الاقتصادي لأميركا هو الرحيل، أياً كانت النتائج، وأياً كان الشكل مخزياً ويلحقه العار وغير ذلك لا يهمّ أميركا فاقدة الحسّ والمشاعر أصلاً!! لكن هناك فريقاً من المحللين يمارسون «الإرهاب الفكري»، يريدون أن يحرموا الشعب الأفغاني من قدرتهم على الانتصار على أميركا، وأجبروها على الرحيل المخزي! وفي نفس الوقت يصرّون على أن يسوّقوا أنّ أميركا تركت أفغانستان بإرادتها الحرة، في إطار إعادة الانتشار والتموضع! في الإقليم وفي العالم في ضوء استراتيجية أميركية كونية جديدة، تستهدف محاصرة الصين وروسيا إلخ…
وأكاد أستغرب من هذا التفسير الغريب الذي لا يختلف عن العملاء الأفغان الذين يرحلون عبر الطائرات الأميركية مع الجنود الأميركيين ورعاياهم، والذين باعوا أوطانهم بأثمان بخسة، ويتهافتون الآن على الرحيل مع المستعمر الأميركي، الذي مارس كلّ أنواع «البغاء السياسي» و «الدعارة السياسية»، من أجل خلق حفنة من العملاء يعملون في خدمة المستعمر، حتى إذا أزفّ الرحيل، يجرون خلفهم للرحيل معهم، حتى لا يتركونهم لمصيرهم المحتوم وهو الإعدام شنقاً بتهمة الخيانة العظمى!
فهؤلاء المفسّرون المسوّقون للسياسة الأميركية، وأسباب انسحابها من أفغانستان، يصرّون على تجاهل الفاعل الأصلي لإجبار أميركا على الرحيل، والعار يلحق بها، والشواهد على ذلك بلا حصر مؤكداً، ألا وهو فعل المقاومة الأفغانية التي استمرت طوال 20 سنة، والتي تفاجئ الجميع بأنّ السبب الذي من أجله احتلت أميركا، أفغانستان، هو الإرهاب، بقيادة حركة «طالبان» التي كانت تحكم أفغانستان من 1995 – 2001، أيّ ست سنوات! وقد استهدفت أميركا القضاء على الإرهاب، على خلفية أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وأنّ وراءها تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، وما فعلته هو الحرب على العاصمة كابول، حتى سقطت تحت سيطرتها، لتصنع الأعاجيب فيها وتولي عملاءها الحكم تباعاً، وسوّقت أنها تقيم المجتمع الديموقراطي في أفغانستان. ثم اتضحت الأكذوبة الأميركية الكبرى! فلا هي قاومت الإرهاب كما سوّقته، ممثلاً في حركة طالبان، التي استعادت كابول، وتستأذنها أميركا في عدم الاعتداء على رعاياها وعملائها في مطار كابول، وبعد أن أحكمت سيطرتها على كلّ أفغانستان، ولم يتبقّ سوى المطار فقط! ولا هي ـ أيّ أميركا ـ قد أقامت تنظيماً ونظاماً ديموقراطياً في أفغانستان، وهرب الرئيس العميل الثاني في أول طائرة، الأمر الذي يؤكد بحسم عدم تأسيس، لا نظام ديمقراطي، أو غيره!
هذا الفشل الأميركي الصارخ طوال 20 سنة، في نفس الوقت، المقاومة الأفغانية مستمرة، يتمّ التسويق له بسذاجة متقطعة النظير. ولو تأمّل هؤلاء في الجغرافية السياسية، لأيقنوا فوراً، أنّ الوجود الأميركي في هذه المنطقة هو العنصر الهامّ في مواجهة الصين وروسيا، وقد جاءت أميركا أصلاً إلى هذا المكان، لمنع عودة تنامي أي قوة عالمية في روسيا، بعد هدم الكيان الإمبراطوري للاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991، وعدم تنامي الصين كقوة عالمية. ويشهد الواقع أنّ العملاقين (روسيا والصين) تناميا كقوى عظمى منافسة لأميركا، وتغيّر النظام الدولي ليصبح متعدد الأقطاب (أيّ أكثر من قطبين عالميين)، أو ثنائي القطبية على خلفية التحالف الروسي الصيني كقوة واحدة في مواجهة القطب الأميركي. أيّ أنّ أميركا فشلت على كافة الأصعدة في الوجود الاستراتيجي في أفغانستان. وأنّ التكلفة في النفقات، والتكلفة البشرية، لم تعد تحتملها أكثر من ذلك، لذلك أجبرت أميركا على الرحيل، اعترافاً بقوة المقاومة، وفشل الاستراتيجية الأميركية تماماً. والصحيح أكثر يمكن قوله: إنّ الرحيل الإجباري لأميركا تحت ضغط عاملي المقاومة الأفغانية ـ أياً كان توجهها ـ وكذلك تصاعد النفقات مع انعدام تحقق أيّ أهداف استراتيجية لأميركا، كان تجسيداً للفشل الاستراتيجي الأميركي، وفشل كلّ التقديرات لخبرائها الذين يدّعون المعرفة، ويصنعون تفوّقاً وهمياً، ليجد من الخبراء الفاشلين في إقليمنا الذين يسوّقون لهذا الفشل، على أنه نجاح وعبقرية للسياسة الأميركية الفاشلة أيضاً على كافة الأصعدة.
لقد ارتكب الاستعمار الأميركي أبشع الجرائم في العالم عموماً، وفي أفغانستان على وجه الخصوص، ويكفي ما فعله، ذلك الذي حدث في مطار كابول، يوم الرحيل، ويوم سيطرة حركة طالبان على العاصمة «كابول»، أن ساد الرعب لدى الأميركيين والعملاء معاً، وتسابقوا على ركوب الطائرات أياً كان مقصدها! وسوّقت أميركا الصورة، على اعتبار أنّ الأفغان يتمسكون بالأميركيين أياً كانوا داخل أفغانستان، أم خارجها وهي ترحل مجبرة! وأنّ الأفغان يخشون من حركة طالبان والصورة السلبية التي يسعى الإعلام الأميركي تضليل العالم عن هذه الحركة؟! هنا السؤال الحقيقي: لماذا ذهبت أميركا إلى أفغانستان عام 2001م؟! وما الذي فعلته أميركا طوال 20 سنة لتحقيق أهدافها التي من أجلها ذهبت؟! وما هو الحصاد إذن؟!
إنّ الإجابة على هذه الأسئلة، توضح بجلاء أنّ أميركا الاستعمارية، ذهبت ونفذت جرائمها، دون تحقيق أيّ هدف معلن، حتى العملاء، فشلت أميركا في ترويضهم وترحيلهم معها، وتركتهم لحالهم ومصيرهم مثلما فعلت لمدة عشر سنوات في فيتنام من قبل.
ويبقى المعنى الأخير، وهو أنّ المقاومة الشعبية الأفغانية قد انتصرت وأجبرت المستعمر الأميركي يرحل ويجرّ أذيال الهزيمة النكراء والخزي والعار يلاحقهم، ولم تستطع الصور التي سوّقها الإعلام الأميركي وأجهزة المخابرات الأميركية، في التقليل من حجم الكارثة التي ستضاف إلى سجل العار لأميركا وعملائها، وستصبح أفغانستان مثل سابقتها فيتنام على وجه الخصوص، عقدة جديدة في مدخلات السياسة الخارجية الأميركية عند صناعتها وصياغتها وتنفيذها.
ولا يعني حديثي أنّ قلمي منحاز لحركة طالبان، لأنها حركة أصولية، أعرف نشأتها وتطورها ومن ورائها في دراسات سابقة لي، لكنني منحاز إلى مقاومة الشعوب في مواجهة الطغيان سواء اتخذ شكل المستعمر البغيض، أو السلطة المستبدة.
جريدة البناء
أضيف بتاريخ :2021/08/31