نحو مشروع لإعادة توجيه بوصلة الأمة
د. سعيد الشهابي ..
ما الخطر الأكبر الذي يتحدى أمة العرب اليوم؟ أهو التطرف؟ أم الإرهاب؟ أم التبشير المذهبي؟ أم الاحتلال؟ أم الاستبداد؟ من المؤكد أن الإجابة على هذه التساؤلات ستكون بالترتيب الذي قدمت به، مع شيء من الاختلاف في تصنيف الثلاثة الأولى. وسيظل الاستبداد في أسفل القائمة لدى الكثيرين لأسباب عديدة.
أولها غياب القادة السياسيين والدينيين الملهمين من ذوي النظرة التحررية والوعي العميق، ثانيها: أن الإعلام العربي بشكل عام موجه لعدم التطرق لقضايا الاستبداد والحرية، وهو مؤثر جدا برغم الانتقادات التي توجه له، ثالثها: أن حالة مسخ شديدة تعرض لها العقل العربي، بمستوييه الشعبي والنخبوي، فلم يعد معنيا بالبعد الإنساني الذي يشجع الحرية ويروج التعددية والتعايش. رابعها: أن ظاهرة «التأميم» لكافة الجوانب الحياتية والفكرية أصبحت شاملة، فلم يترك للشعوب شيء من القدرة على صياغة الموقف أو صنع القرار، أو الاعتراض على السياسات الرسمية.
خامسها: أن الدولة تحولت إلى مارد يسيطر ليس على حياة البشر فحسب، بل على الأفكار والمشاعر. سادسها: أن سياسة «الاستنطاق» هي الأخرى تغولت لدى هذا المارد الذي لم يعد يقبل صمت المواطن، بل أصبح يستنطق الفرد ثم يحاسبه على ما يقول، وتصدر الأحكام القاسية ضده فيما لو عبر عن ذلك على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي. ما سبب هذا التغول؟
كانت حقبة العقدين اللذين سبقا ثورات الربيع العربي حافلة بفعاليات فكرية وسياسية خصوصا في أوساط المنفيين السياسيين في الغرب. ونجم عن ذلك حالة انصهار غير مسبوقة للأفكار والرؤى، وأزيلت الحواجز المصطنعة بين الأفراد والنخب. في خضم ذلك السجال كان هناك وضوح رؤية لدى الكثيرين. فمثلا كان قيادي مثل الشيخ راشد الغنوشي يكرر مقولة ثابتة: الاستبداد هو الخطر الأكبر على الأمة.
وساهمت السجالات الفكرية والدينية في تأصيل فكرة الحرية والشورى والبعد الإنساني في الإسلام، ووحدة الأمة، وواجب التحرر من الاحتلال والتصدي للهيمنة الغربية. هذه قيم كان لها دورها في بلورة الخطاب الذي انطلق باتجاه بلدان العالم العربي المحكومة بالديكتاتورية. في تلك الحقبة لم تكن أصابع الاستبداد قد تمكنت من تحقيق موطىء قدم في الغرب. وحتى الآن ما تزال تلك المحاولات تصطدم بسياسات الدول الغربية التي تسعى لمنع وصول التطرف والإرهاب إليها. كانت مقولة الشيخ الغنوشي تلامس الحقيقة وتساهم في توجيه النشء نحو أهداف كبرى كالقضاء على الاستبداد وتحرير أراضي العرب والمسلمين من الاحتلال وتطهيرها من الهيمنة الأجنبية. ومن عاش تلك الحقبة لم يكن يتوقع أن يرى الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم.
قوى الثورة المضادة كانت تعمل للهيمنة على الشارع العربي ومنعه من القيام بدور مستقل لاختيار أنظمة الحكم التي يريدها. فقد كانت تجربة الجزائر المرة التي أعقبت الانقلاب على الخيار الديمقراطي في 1992 مريرة ورادعة لمن تسول له نفسه بالسعي للتغيير. المفاجأة حدثت عندما انطلقت ثورات الربيع العربي. ردة فعل قوى الثورة المضادة لتلك الظاهرة كان حاسما. فقد استخدمت أبشع وسائل القمع لإطفاء شعلة الثورات ووقف التغيير الذي كان يبدو محتوما.
هذه المرة كانت تلك القوى تخطط لما هو أبعد من القمع المادي الذي تجاوز المستويات السابقة في التوحش. وما حدث بعد الضربات الأولى للثورات يفوق كثيرا ما حدث خلالها. فبالإضافة للقتل الجماعي في شوارع عواصم الثورات، وفتح السجون على مصاريعها لاستقبال عشرات الآلاف من المعارضين السياسيين، والإفراط في أساليب التعذيب، تبنت قوى الثورة المضادة مشاريع فكرية لضرب العقل التحرري لدى شباب الامة وقياداتها. ومع الأسف الشديد حققت هذه المشاريع قدرا كبيرا من أهدافها. ومن مصاديق ذلك ما يلي: اولا: تراجع الاهتمام بقضية فلسطين فلم تعد أولوية لدى الكثيرين، وتراجع معها مشروع التحرير.
ثانيا: أصبح التواصل مع القيادات الإسرائيلية مستساغا، بينما كان «خطا أحمر» مرفوضا وباعثا للاشمئزاز والتقزز، ثالثا: تمكنت قوى الثورة المضادة من «شيطنة» قوى المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، فما عادت قوى المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية، وهي التي صمدت أمام العدوان الإسرائيلي مرارا، تحظى بالاحترام والتقدير السابقين.
رابعا: تراجع مشروع الحريات ومقارعة الاستبداد، وأصبح الخطاب الرسمي هو الذي يوجه الشارع العربي، تارة نتيجة الانخداع والتضليل، وأخرى بسبب الخوف من القمع وردة الفعل، ورابعا لأسباب اقتصادية ومعيشية. خامسا: ضمرت لدى الكثيرين مشاريع التحسس من الهيمنة الغربية، وأصبحت العلاقة مع الولايات المتحدة أمرا مستساغا بعد أن كانت مرفوضة. ولم يعد التدخل الانكلو ـ أمريكي في الأراضي العربية يثير الغضب أو يحمس الجماهير للاحتجاج ضده على الأقل.
سادسا: انحسرت كافة مشاريع التغيير التي رفعت لواءها طلائع الشباب منذ الخمسينات، وآخرها المشروع الإسلامي الذي ضربت مجموعاته، الواحدة بعد الأخرى، حتى اصبح الحديث عن أي منها، مرفوضا بعد أن تمت «شيطنتها» هي الأخرى كما حدث مع مجموعات المقاومة.
ولعل الخاسر الأكبر في هذه المعمعة السياسية والفكرية، هو مقارعة الاستبداد، واستبداله بقضايا الاختلافات الدينية والمذهبية. والسؤال هنا: أيهما الأفضل (أو الأقل ضررا): الحاكم الكافر الذي يمارس العدل أم الحاكم المسلم الظالم؟ ثمة نقاط لتوضيح إشكالات الإجابة. أولها: ورد في المأثور أن «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم». ومع أن هذا ليس حديثا لرسول الله إلا أنه ورد في تفسير الرازي والكامل لابن الأثير ومعارج اليقين للسبزواري. وجاء في كتاب «مجموع فتاوى الشيخ ابن تيمية»: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة».
ثانيها: أن كوادر الإسلام الأولى لجأت للحبشة التي كانت تحت حكم النجاشي بعد أن وجههم رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام قائلا: إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد. وحدثت هجرتان شارك في الأولى 15 رجلا وامرأة، وفي الثانية ثلاثة وثلاثون. ولم يعترض المسلمون على حكمه أو يتصدوا له لأنه كان «عادلا» وان لم يكن مسلما. ثالثا: تصاعدت في العقود الأخيرة هجرة المسلمين إلى الغرب «الكافر» بعد أن ضاقت عليهم بلدانهم التي يهيمن عليها «حكام مسلمون». ألا يعني ذلك أن العدل هو المعيار الأول لمدى صلاح النظام السياسي، وليس الانتماء الديني أو المذهبي لحكامه؟ رابعا: أن إقامة العدل يمثل جوهر المشروع الإلهي في الأرض، ومن أجله بعث الله الأنبياء.
ماذا يعني ذلك؟ إذا كان هناك توافق على أن إقامة العدل يمثل جوهر المشروع الديني في الأرض، فان أي اعتبارات أخرى تصبح ثانوية. وهذا ما يجدر بعلماء الدين ورموز المشروع الإسلامي استيعابه في هذه الحقبة بالذات. فحين تطرح قوى الثورة المضادة عناوين أخرى، فإنما بهدف إبعاد النشطاء عن الطريق المؤدي لإقامة العدل. وللعدل دلالاته التي تعبر عنه مؤشرات عديدة تعمل منظمات دولية عديدة لرصدها، كالمنظمات الحقوقية المعروفة والشفافية الدولية (ترانسبرنسي انترناشيونال) ومؤشر الديمقراطية ومؤشر حرية التعبير (انديكس اون سنسرشب)، وفريدوم هاوس. ومن يشاهد تقارير هذه المنظمات للعام 2015 يرى مدى تراجع هذه المؤشرات في البلدان العربية.
أليس هذا غيابا للعدل؟ فمشكلة الأمة اليوم ليس في وجود أقلية مسيحية هنا أو هناك، أو انتشار مذهب هنا وانحساره هناك، أو في اختلافات فقهية بين المسلمين، فهذه الاختلافات، كبيرة أو صغيرة، لا يملك المهتمون بها سلطة الحكم، وينحصر تأثيرها ضمن اطر الأخلاق والضمير، أما إدارة شؤون حياة شعوب الأمة فهي التي يجب أن تخضع لمعايير العدل والظلم، ليتخذ القرار بعد ذلك بما إذا كانت المسؤولية الشرعية تقتضي مسايرتها أو التصدي لها. مطلوب في هذه الحقبة السوداء من تاريخ العرب إعادة توجيه بوصلة مساراتها على هدى ووعي وبصيرة. مطلوب إعادة العقل إلى موقع القرار، وإبعاد العواطف والمشاعر.
العدل لا يستقيم إلا بذلك، وقد منع الله المسلمين من السماح لعواطفهم بالتأثير على مسار العدل: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى». فالحب والكره والحساسية من الآخر المختلف ثقافة أو دينا أو مذهبا، يجب أن تمنع من التأثير على الموقف إزاءه، فذلك ما يوحي به المبدأ القرآني المذكور. والهوى هو البديل للعقل، ويجب أن يستبعد من دائرة الحكم والعلاقات مع الآخرين، وقضايا الأمة الأساس متمثلة بالحرية والكرامة والنظام العادل، يجب أن تحظى بالأولوية في مشروع التغيير المنشود الذي ضربته قوى الثورة المضادة قبل خمسة أعوام، وما يزال يستصرخ القلوب والضمائر لإنقاذه وتفعيله، وإلغاء الاعتبارات الأخرى التي تستخدم للتضليل والتشويش وحرف مسار الأمة وتطويعها للطغيان والاحتلال والهيمنة الأجنبية.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/05/04