العرب وحصار السياسة
شفيق الغبرا ..
تطرفت الدول العربية في تجريم السياسة التي يميل الناس لممارستها بشكل فطري... ففي الجوهر أخضعت المجتمعات العربية على مدى عدة عقود من قبل أنظمتها السياسية لحصار سياسي محكم. إن الحرب على السياسة وحركتها في المجتمعات من مسببات انفجار الحالة العربية أمام نفسها وأمام العالم... فمرة انفجرت الحالة العربية من خلال الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 (وذيول ذلك الحدث لم تختف ولم تنته ليومنا هذا) وانفجرت الحالة العربية مرة أخرى من خلال الربيع العربي 2011.
كما وانفجرت مرات عدة من خلال حروب أهلية وإقليمية مستمرة ليومنا هذا... السياسة الغائبة في العالم العربي هي تلك التي تتعامل مع الاختلاف دون قتال وتمارس التداول (يوم لك ويوم عليك)، وتتقبل المحاسبة والمراقبة من أجل أداء أفضل وتضمن كل هذا من خلال العدل والأنسنة والحقوق الأساسية والصحافة الحرة، والانتخابات الشعبية لهيئات تمثيلية فاعلة.
إن محاولة قتل السياسة هي أحد أهم مسببات الداء العربي، لأنها تعني غياب نقاش وطني بشأن الشئون الاجتماعية والإدارية والاقتصادية وبشأن النفوذ ودوره والفساد وأثره وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، وطريقة الحكم وقرار الحرب وقرار السلم والتفاوض... تفادي النقاش المفتوح، والإكتفاء بالتصفيق عن بعد، بشأن المجتمع والاقتصاد والسياسة يصادر السياسة لصالح مجموعة حاكمة صغيرة العدد تصيب وتخطئ، وهي في صنعها للقرار بمعزل عن الحوار الوطني والرقابة والشفافية والتداول، تقع في سلسلة كبيرة من الأخطاء التي لا يتحمل المجتمع مسئوليتها، لكنه يدفع ثمنها وحيداً.
في الدول العربية تتعطل القدرة على إدارة نقاش صادق بشأن التاريخ والإجتماع والإقتصاد، بل لا يمكن إدارة نقاش بشأن سياسة عامة بلا مضمون سياسي يتعلق بصناعة القرار وأخلاقيته، وتوزيع القوة والمسئولية ودور سياسات الدولة والحكومة وقوى النفوذ.
إن عدم توفر فهم واضح للواقع يمنع النخب العربية الراهنة من فهم الأسباب التي تؤدي لخلل الإدارة وللسخط في الشارع، وللفساد في كل مكان... غياب النقاش الوطني يعني أن القرارات مفصولة في الأساس عن حقائق المجتمع والواقع.
في السياسة العربية المحاصرة تتحول الخصومة لتخوين ورفض شامل للطرف الآخر لكنها تتحول لاستئثار في السلطة والمواقع مهما كان الثمن... لهذا قلما نجد في بلادنا العربية رئيساً متقاعداً، فهو إما رئيساً مدى الحياة أم مقتولاً أم شهيداً أم في السجن كما حصل مع رؤساء سابقين في العالم العربي.
كل هذا جعل السياسة غير قادره في معظم بلادنا العربية على أداء وظيفتها بصفتها أداة اختلاف وتوازن وأداة تعبير وتغيير سلمية بهدف تلبية احتياجات ومصالح المجتمع وأفراده ضمن حدود الممكن وآفاقه.
لا استقرار بلا سياسة تقوم على التفاوض والتفاهم والتفاعل والحوار الوطني بين قوى فاعلة، كما يقع في معظم مجتمعات العالم... ففي ظروف حصار السياسة تصبح كل مشكلة بما فيها ظاهرة أطفال الشوارع في مصر أم المخدرات في طول الوطن العربي أم تحديات الدولة الريعية عرضة للمفاجآت الكبرى.
لقد هرب الناس، بسبب حصار السياسة، نحو الأماكن المغلقة والسرية... لهذا ليس غريباً أن تأتي معارضة عراقية مع الدبابات الأميركية أو أن تسيطر على أجواء منطقتنا تعبيرات العنف والغضب، أو أن تبرز منظمة «القاعدة» ثم «داعش « كتعبير عن نقص السياسة واختناق كل شيء، أو أن يعود الربيع العربي بصورة أكثر حسماً، ففي أمة بلا سياسة ينتشر النزاع غير المقنن والانفعال والحروب.
لازالت أنظمتنا تعتقد أنها قادرة على الاستمرار من خلال الوسائل الأمنية عوضاً عن السياسية ببعدها الشعبي والتشاركي الحر. عرب اليوم يتقاتلون بلا سياسة وبالتالي بلا أنسنة، ولهذا تلتف عليهم المعادلات الإقليمية والدولية التي لها كل المصلحة في سقوطهم التاريخي... إن لم يتقاسم العرب حياتهم السياسية بحرية وانفتاح ورحمة فسيتعرضون لمزيد من الإنهيارات التي تعكس حصار السياسة في أنظمتهم ومجتمعاتهم.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/05/21