محمد علي كلاي: تمرد على أمريكا في كل الجوانب
د. سعيد الشهابي ..
ليس من المبالغة في شيء القول بأن محمد علي كلاي كان إيقونة متميزة على صعدان شتى، وبرحيله فقد العالم شخصية احترمها الجميع، كل لأسبابه. وقراءة حياة هذا البطل العالمي تفتح أبواب بحث حقبة متميزة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. وتزامنت حياة محمد علي الشاب مع تطورات الأوضاع الأمريكية، حركة السود الأمريكيين من أجل المساواة، والنضال ضد التمييز العنصري، وتصاعد الوعي الشعبي بحقوق الإنسان. كما أنها حقبة نشوء الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك أنها الحقبة التي شهدت تصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، التي كانت حرب فيتنام ذروتها. تلك الحرب وما صاحبها من اضطراب ذهني لدى قطاع واسع من أصحاب الفكر المتحرر ومعارضي مبدأ الحرب، كادت تعصف بالصعود الأمريكي على الصعيد العالمي. بل يمكن القول أن تلك الحرب ساهمت في تحطيم كبرياء أمريكا. وبقيت آثارها تضغط على النفسية الأمريكية وتدفع الساسة للانزواء وتجنيب بلدهم التدخل في الصراعات الدولية أكثر من خمسة عشر عاما. ولم تتورط أمريكا في حرب كبرى مباشرة إلا في 1991 عندما خاضت الحرب الهادفة لإخراج القوات العراقية من الكويت. كان شبح الحرب الفيتنامية يطارد البيت الأبيض والبنتاجون خصوصا مشاهد الهروب السريع من هانوي. محمد علي كلاي لم يكن معاصرا لتلك التطورات فحسب، بل عنصرا فاعلا فيها. وساعدته بطولته في الملاكمة وشخصيته المتميزة على مستوى الحديث والفكاهة والوعي والذكاء على أن يكون عنصرا فاعلا في مسار التاريخ الأمريكي خلال حقبة الستينات، الأمر الذي ما تزال آثاره مستمرة حتى اليوم.
فقد تميز عن الكثيرين في مجالات خمسة: مهارته الرياضية التي جعلته قادرا على الفوز في 56 مباراة دولية من مجموع 60 لعبها، ارتباطه بحركة الدفاع عن حقوق السود الأمريكيين والنضال ضد التمييز العنصري، وانتماؤه الديني الذي اختاره طوعا ولم يرثه كما هم أغلب الناس، مهارته الكلامية وقدرته على التعاطي مع المواقف على شاشات التلفزيون بأساليب شيقة شدت المشاهدين إليه عقودا، وموقفه الإيديولوجي الذي دفعه لرفض المشاركة في حرب فيتنام، وهو شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر. أنها مزايا قلما تجتمع في شخص واحد. ولذلك حظي بتقدير الكثيرين، وودعه العالم بما يليق به من حفاوة واحترام. ولو انحصرت مهارته بالملاكمة فحسب لما حظي بذلك. فما أكثر الملاكمين والرياضيين الذين يرحلون ويحظى رحيلهم بشيء من الاهتمام المألوف. أما أن ينشغل العالم بضعة أيام بالحديث عن شخص واحد، ويشغل شاشات التلفزيون أياما فهذه ظاهرة فاجأت الكثيرين ممن تابعوه على حلبة المصارعة في ريعان شبابهم. فالجيل الذي عرفه أصبح متقدما في العمر، لأن آخر جولاته الرياضية حدث قبل ثلاثين عاما، وكان جسده آنذاك قد أثخن جراحا وعمره الأربعيني قد جاوز العمر المعتاد لمثل هذه الرياضة. كما أن جسده قد بدأ يشكو من آثار عقدين متواصلين من الملاكمة التي ساهمت في ابتلائه بمرض الباركنسون. وثمة انتقادات لمستشاريه ومديري أعماله الذين استمروا في إنهاك جسده بالأسفار والفعاليات حتى بعد أن تمكن المرض منه. ولا ينسى الكثيرون مشهد افتتاح الدورة الاولمبية في اتلانتا 1996 التي أشعل بطل الملاكمة العالمي فيها الشعلة الاولمبية ويده ترتعش كالسعفة في مهب الريح. لقد كان مشهدا مؤلما يبعث على الشفقة والتعاطف والشعور بالأسى تجاه هذا الرجل الذي كان رمزا للبطولة والإقدام الذي لا يقوى الآخرون على منازلته في حلبة السباق.
كان محمد علي كلاي رجلا عظيما، عاش حياته وهو يشد أنظار العالم، حتى بعد وفاته. والسمات الأربع التي ذكرت تمثل مقومات شخصيته. فالملاكم الذي استعصى على منافسيه وحطم أرقاما قياسية في الفوز سواء بالنقاط أم بالضربة القاضية، كان ملهما للكثيرين. وقد تحدث منافسوه في الحلبة بعد رحيله معبرين عن شعورهم بالصغر أمامه. وظهر جور فريزر الذي هزمه محمد علي في واحد من أكبر السباقات بعد عودته للحلبة في 1971، ليقول أنه كان يشعر بالعظمة كلما ذكر اسمه مرادفا لاسم محمد علي «أنه لأمر أشعرني بالاعتزاز والفخر». كان فريزر يومها بطل الملاكمة العالمي، حاز اللقب في حقبة كان محمد علي ممنوعا فيها من المشاركة في أي سباق بسبب موقفه الشهير من الحرب الفيتنامية. مهارته الرياضة جعلته أكبر ملاكم في تاريخ تلك اللعبة، حيث كسب السباق في 56 حلبة وخسر خمس مرات فقط. وتميزت لياقته البدنية عن سواه من الملاكمين، فهو رشيق وسريع الحركة وكثير الكلام خلال الجولات التي يبدو في بعضها منهكا. كما منح نفسه لقب «الأعظم» في تلك الرياضة، فكان يسأل المشاهدين: من هو الأعظم، فتأتيه الإجابة «محمد علي». ويمكن القول أنه منح الملاكمة عصرها الذهبي، وباعتزاله بعد خسارته المباراة الأخيرة مع تريفور بيربيك التي أقيمت في مدينة نيساو بجزر البهاما، كان قد أوشك على الأربعين من العمر. وباعتزاله أصبحت الملاكمة باهتة وأقل استهواء للمشاهدين.
أما الميزة الثانية فهي شعوره العميق بالانتماء للجالية السوداء وإحساسه بضرورة المشاركة في الدفاع عن وجودها وحقوقها. وهنا أصبح الحديث عن محمد علي كلاي يستدعي التطرق لشخصيتين من أكبر رموز الحركة السوداء. فقد كان الدكتور مارتن لوثر كينغ ومالكولم اكس من كبار قادة الحركة المناهضة للعنصرية والهيمنة البيضاء. كان مالكولم اكس الأكبر سنا، وكان يتصدى بقوة للتفرقة بين الأمريكيين البيض والسود، ويحث السود على المطالبة بحقوقهم وعدم الصمت على ما يعانونه من ظلم وتمييز. ومن أقواله الشهيرة: إذا لم تكن على استعداد للموت في سبيل الحرية، فعليك أن تشطبها من قاموسك. وهو القائل: لا يستطيع أحد أن يمنحك الحرية، ولا يستطيع أحد أن يمنحك المساواة أو العدالة أو أي شيء آخر، فإن كنت رجلا فعليك أن تأخذها بنفسك. التقى به محمد علي في العام 1962 وتوطدت العلاقة بينهما حتى أصبح مصدر تأثير كبير على شخصيته سياسية وروحيا. هذا التوجه الثوري لدى مالكولم اكس جعله مستهدفا من قبل الكثيرين. فتم اغتياله في شباط/ فبراير 1965.
أما مارتن لوثر كينغ فكان أحد دعامات الحركة السوداء من أجل الحقوق والمساواة. من أهم الشخصيات التي ناضلت في سبيل الحرية وحقوق الإنسان. أسس لوثر زعامة المسيحية الجنوبية، وهي حركة هدفت إلى الحصول على الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين في المساواة، وراح ضحية قضيته. رفض كينغ العنف بكل أنواعه، وكان بنفسه خير مثال لرفاقه وللكثيرين ممن تورطوا في صراع السود من خلال صبره ولطفه وحكمته وتحفظه حتى أنهم لم يؤيده قادة السود الحربيين، وبدؤوا يتحدّونه عام 1965م.تعرف عليه محمد علي في 1962 وتواصل معه حتى دعاه لحضور إحدى حلبات الملاكمة. كان الاثنان يشتركان في الإيمان بضرورة الدفاع عن حقوق السود ورفض المشاركة في حرب فيتنام. غير أن كينغ كان متحسسا من منظمة «أمة الإسلام» التي كان محمد علي ينتمي إليها. مع ذلك استطاع الرجلان التوافق على مبدأ النضال من أجل القضايا المشتركة. ويظهر مقطع فيديو ذو أهمية تاريخية الدكتور مارتن لوثر كينغ الذي اغتيل، هو الآخر في 1968 يقول فيه: إن كل شاب في هذا البلد يعتبر الحرب مرفوضة وغير عادلة. ومهما كان موقفكم من الدين الذي ينتمي إليه محمد علي فان علينا أن نعتز بشجاعته».
الميزة الثالثة هي انتماؤه الديني. فقد اعتنق الإسلام في 1964 بعد أن وافقت منظمة «أمة الإسلام» على انخراطه في صفوفها، بعد فوزه على بطل الملاكمة العالمي آنذاك، سوني ليستون، في ذلك العام، وجدت زعيم المنظمة، أليجا محمد، في بطولته العالمية دافعا لاحتضانه. هذا يكشف أن الملاكم الشاب كان لديه عقل متحرك، يبحث عن الحقيقة ويرفض التبعية. فمنذ أن التقى مع مالكوم اكس أصبح لديه توجه نحو الدين والروحانية. ويبدو أنه أعتنق الإسلام في 1964 بعد فوزه الكبير، وقام بتغيير اسمه من كاسيوس مارسيلوس كلاي إلى محمد علي كلاي. وقد ازداد التزامه الديني برغم بيئته وظروفه. وربما زادته فترة السنوات الأربع التي منع فيها من الملاكمة تعمقا في الإسلام، فأصبح جزءا من شخصيته. وفي العام 2001 تحول إلى التصوف وأخذ العهد على الطريقة النقشبندية.
أما ميزته الرابعة فقدرته الكلامية في الحوارات المباشرة وعلى شاشات التلفزيون. فهو يمزج بين الفكاهة والحقيقة، وبين الابتسامة والتهكم. وساعدته حيويته وروحه الرياضية على ممارسة سجالاته بتميز عن الآخرين، الأمر الذي جعله محبوبا لدى من يعاشره أو يسمع له.
أما الميزة الأخيرة فتتجسد برفضه للمشاركة في الحرب الفيتنامية. ففي 1967 استدعي للتسجيل والمشاركة في تلك الحرب ولكنه رفض ذلك معتبرا نفسه «رافض برادع الضمير». وقال: إن الحرب مناقضة لتعليمات القرآن. أنني لا أحاول تفادي الخدمة، ولكننا لا نستطيع المشاركة في أي حرب ما تكن بأمر من الله ورسوله». ومن أقواله أيضا: أنني لا ادخل في نزاع مع الفييت كونغ… لماذا يطلبون مني أن البس الزي وأذهب عشرة آلاف ميل لإلقاء القنابل والرصاص على أناس سمر في فيتنام، بينما السود في لويفيل (مدينته) يعاملون مثل الكلاب ويحرمون من ابسط الحقوق». يعتبر ذلك الموقف من أهم مواقفه السياسية والإنسانية، فقد ساهم في تحريض الكثيرين على الامتناع عن الخدمة. وهذا ما جعل شخصيته متميزة أخلاقيا وإنسانيا.
بعد هذا كله، فهل من المبالغة القول إن محمد علي كلاي كان أحد عظماء القرن الماضي؟
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/06/13