الإنسان الفلسطيني منفرداً يذكّر العالم بمركزية قضيته الحيّة...
د. عصام نعمان ..
كان بنيامين نتنياهو قد أقنع نفسه بأنّ «الهبّة» الفلسطينية وأعمال الطعن بالسكاكين والدهس بالسيارات انتهت، وأنّ «الإسرائيليّين» بات بإمكانهم العيش والتجوال بسلام، وانه أصبح في مقدوره توسيع حكومته بضمّ «صقر» معروف بتصريحاته المتوحشة اسمه افيغدور ليبرمان بعدما انتفت الحاجة في ظنه إلى إطلاق تهديداتٍ من طراز «تدمير طهران وسدّ أسوان» و«قتل اسماعيل هنية»، وانّ الظروف السياسية المتغيّرة باتت صالحة ليوسّع دائرة بيكار اتصالاته فيذهب إلى موسكو ليوهم فلاديمير بوتن بأنه مستعدّ لتقبّل المبادرة العربية شرط تعديلها بحذف حق العودة والحق بالقدس فماذا يبقى منها أصلاً! ومباشرة المساعي مع الرئيس الروسي وغيره من الرؤساء الأجانب والعرب من أجل شرعنة الاحتلال وتحويل «إسرائيل» جزءاً من نظام إقليمي جديد.
كان نتنياهو يرتع سعيداً في أحلامه وأوهامه عندما أيقظه منها شابان فلسطينيان جامعيان هما ابنا العمّ محمد أحمد موسى مخامرة وخالد محمد موسى مخامرة من بلدة يطا جنوبي الخليل، بتنفيذهما عملية فدائية في قلب تل أبيب، على مقربة من مقرّ وزارة الدفاع والهيئة العامة لأركان الجيش الإسرائيلي، حصيلتها مقتل أربعة صهاينة وإصابة 17 آخرين بجروح.
نتنياهو توجّه فور عودته من موسكو إلى موقع العملية برفقة وزير الحرب الجديد ليبرمان ووزير الأمن الداخلي غلعاد اردان. المسؤولون الثلاثة أدلوا بتصريحات توعّدوا فيها الفلسطينيّين بالردّ بمنتهى الحزم والصرامة. تصريحاتهم شكّلت بواكير ردود الفعل من شتى الأوساط الصهيونية. بعضها كان مجرد تهديدات عالية النبرة وبعضها الآخر تضمّن أسئلة بالغة الحساسية والحيرة والخطورة، أهمّها:
ـ كيف نجح الفدائيان في الانتقال من منطقة جبل الخليل إلى قلب تل أبيب؟
ـ كيف تمكّنا من الحصول على أسلحة؟
ـ إذا كانا قد نجحا في تصنيع سلاحٍ من نوع كارلو غوستاف، فهل سيكون في مقدورهما، مع غيرهما، صنع صواريخ أشدّ فتكاً؟
ـ كيف تمكّنا من جمع معلومات استخبارية قبل تنفيذ الهجوم في مطعم ماكس برنار بمنطقة سارونا الواقعة مقابل «هكرياه»، حيث توجد وزارة الحرب وهيئة الأركان العامة؟
ـ صحيح أنهما قاما بالعملية بمفردهما، لكن ليس من المستبعَد أن يكون ثمة فرد أو أكثر أو جماعة تقف وراءهما، فهل في مقدور أجهزة الاستخبارات كشف هؤلاء؟
ـ إذا كانت ثمة جماعة تقف وراءهما، فهل تكون عملية تل أبيب مؤشراً إلى انتقال المقاومة الفلسطينية المسلحة من قطاع غزة إلى الضفة الغربية؟
ـ ما التداعيات السياسية لهذه العملية الفدائية البالغة الجرأة والإتقان؟ ما انعكاساتها على تركيبة الحكومة؟ وما التدابير الصارمة التي توعّد نتنياهو الفلسطينيين باعتمادها؟
التدابير العسكرية لم يتأخر الجيش وقوى الأمن الداخلي في اتخاذها: احتلال بلدة يطا وعزلها عن محيطها. اعتقال أقارب الفدائيّيْن ومباشرة عملية تحقيق شاملة. إلغاء مفعول أكثر من 80 ألف تصريح دخول للعمل في «إسرائيل». تكثيف الوجود العسكري والأمني في كلّ أنحاء الضفة الغربية حتى بدت وكأنّ إسرائيل أعادت احتلالها من جديد.
التدابير السياسية لم تتضح بعد. لكن تصريحات بعض الوزراء والحاخامين تؤشر إلى تداعيات واحتمالات بالغة الخطورة:
ـ وزراء وحاخامون طالبوا باحتلال المنطقة «ج» من الضفة الغربية وإعلان ضمّها إلى «إسرائيل» رسمياً.
ـ وزراء وحاخامون وسياسيون وإعلاميون دعوا إلى طرد عرب الضفة الغربية العاملين داخل «إسرائيل» أو المقيمين فيها إلى غير رجعة.
ـ آخرون أعلنوا وجوب التفكير جدّياً بترحيل فلسطينيّي 1948 الذين ما زالوا مقيمين في بيوتهم وأملاكهم داخل «إسرائيل»، رغم حرب الاحتلال والتهجير.
ـ ثبوت رسوخ الروح الوطنية والتعلق بالأرض والحقوق لدى الشعب الفلسطيني عموماً والشباب الفلسطيني خصوصاً، الأمر الذي ينبئ بمزيد من أعمال المقاومة في قابل الأيام.
ـ إخفاق أجهزة الاستخبارات كلها في الكشف المسبق عن العمليات الفدائية التي يقوم به الفلسطينيون، شبّاناً وشابات.
ـ ثبوت انطواء بعض العمليات على تقنيات معقدة الأمر الذي يدلّ على وجود كفاءات علمية محترفة داخل الجسم الفلسطيني سينعكس بالضرورة إيجاباً على تصنيع سلاح متطوّر في الحاضر والمستقبل.
كلّ هذه التداعيات والاحتمالات مهمة وخطيرة. لكن الأهمّ منها، في رأي كثيرين، معانيها ودلالاتها في الجانب الفلسطيني وفي الجانب العربي والإسلامي. فقد بات واضحاً أنّ لدى شعب فلسطين في الوطن المحتلّ كما في الشتات وعياً عميقاً بأبعاد القضية الفلسطينية واستحقاقاتها، وبالتحديات التي تواجهها، وبالعوامل والظروف التي أدّت إلى انحسار مركزيتها في حياة العرب والمسلمين، وبالتالي ازدياد جهود «إسرائيل»، قياداتٍ ومستوطنين، لاستكمال أغراض المشروع الصهيوني الاستيطاني الاقتلاعي، ونشوء قضايا «مركزية» أخرى في المنطقة تبعاً لتفاقم الهجمات والضغوط التي تستهدف أقطاراً عربية ذات تأثيرات استراتيجية عميقة على فلسطين، شعباً وقضية، كسورية ولبنان والعراق ومصر.
القضية «المركزية» المستجدّة الأكثر خطورة وتهديداً للقضية المركزية الأمّ، فلسطين، هي إيران من حيث سعي «إسرائيل» مع بعض دول المنطقة إلى جعلها الخطر الأول الذي يتهدّد الجميع.
لئن كانت القوى الوطنية الحيّة بين الفلسطينيين والعرب تعي خطورة التحدّي الماثل وانعكاساته على مركزية قضية فلسطين في الحياة العربية والإسلامية، إلاّ أنّ الشباب الفلسطيني يبدو الأكثر وعياً وفعالية في مجال المواجهة. فالفلسطينيون، شبّاناً وشابات، بادروا، إفرادياً، إلى مواجهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بأجسادهم العارية وبما تيسّر لهم من أدوات المطبخ وأعمالهم اليدوية وضربوا بها وأصابوا الجنود والشرطة والمستوطنين، وأطلقوا ظاهرة مقاومة فريدة في عالم العرب عمادها الإنسان الفرد القادر على الإبداع والفعل بفضل الوعي والتصميم وتكنولوجيا السلاح وثورة الاتصالات والانترنت المتطوّرة.
أجل، بادر الإنسان الفرد الفلسطيني، ذاتياً، إلى العمل والمقاومة ضدّ الصهاينة، أفراداً ومؤسسات، ما يؤدّي إلى إبقاء القضية حيّة، بل إلى إحياء مركزيتها في ضمائر الفلسطينيين أولاً والعرب والعالم تالياً.
هذه الظاهرة ذات الفرادة الثورية ستتحوّل بالضرورة ظاهرةً جماعية، وستنتقل عدواها إلى فصائل المقاومة الفلسطينية الهاجعة والأخرى المتربّصة وإلى مثيلاتها في عالم العرب ما يحمل الشباب عموماً وشباب فلسطين، خصوصاً على ابتداع صيغةٍ جماعية للمقاومة أكثر تخطيطاً ومراساً ونَفَساً طويلاً وعزيمة وفعالية.
جريدة البناء
أضيف بتاريخ :2016/06/13