أين ذهب حزب البعث في العراق؟
محمد عبدالله محمد ..
ظلَّ الناس (وما زالوا) يتساءلون: أين ذهب حزب البعث في العراق بعد احتلاله سنة 2003؟ فهذا الحزب حَكَمَ العراق 48 سنة، منذ العام 1968، ولا يمكن أن يُصدِّق أحدٌ أن يختفي ويتبخَّر بقرار إداري أصدره الحاكم المدني في بغداد بعد الاحتلال السفير بول بريمر وكأن شيئاً لم يكن!
نحن اليوم نسير في الشهر السادس من العام 2016، أي أن ثلاثة عشر عاماً وشهراً مضى على حلّ حزب البعث في العراق. وربما يقول أحدهم إن «تعرية» الزمن كفيلة بأن تجعل أغلب قياداته كَهلة أو عاجزة عن العمل، حيث أن أغلبهم في العقد السابع، لكن هذا الرأي ليس دقيقاً.
ما فعلته الإدارة الأميركية من حَلٍّ للحزب وإبعاد لمنتسبيه قد يكون له وجود على الورق وفي المؤسسات الناشئة، لكنه لا يُلغِي حالة سابقة، كون الوجود البعثي في العراق هو بالأصل وجود مادي فيزيائي وذو حيِّز مرئي. وهذه الحقيقة لا تُغيّرها القناعات المعارضة للبعث هناك.
دعونا نُثبِت هذا. في الثاني عشر من إبريل/ نيسان 2003، نشرت وزارة الدفاع الأميركية قائمة تتألف من 55 مسئولاً عراقياً من المطلوبين، وذلك على أوراق لعب تم توزيعها. وجاء في الرقم خمسة ضمن فئة الديناري اسم: عبد الباقي عبد الكريم السعدون مسؤول مكتب البعث في محافظة ديالى.
هذا الرجل لم يُلقَ القبض عليه إلاّ في مثل هذا الشهر من العام الماضي (2015). أيّ أنه ظلَّ متخفياً وطليقاً طيلة 12 عاماً، قبل أن تعتقله قوات كردية في كركوك وتسلّمه لحكومة بغداد. وبعد اعتقاله جرى استجوابه عدّة مرات، ثم أجرِيَت معه لقاءات متلفزة. وقد استمعتُ للسعدون مدة ساعتين وهو يتحدّث في أحدها عن حزب البعث ما بعد الاحتلال.
السعدون (71 عاماً)، تحدّث عن نشاطه وقناعاته بشكل واضح. وهو حديث «ربما» صَدَمَ الكثيرين ممن اعتقدوا أن بريمر استطاع بقراره المذكور إنهاء وجود البعث في العراق، إلاّ أن ما قاله السعدون بدا متفقاً مع التساؤلات التي كنا نتحدث عنها.
أول ما يُلفت الانتباه في حديثه، هو أن القيادة القُطْرية لحزب البعث في العراق مازالت تعمل. وأن الظروف الجديدة للحزب دفعت بعزة الدوري أميناً عاماً، ودفعت به (السعدون) نائباً لأمين سر القُطر، وأن أول رسالة وصلت لقيادة الحزب من صدام حسين كانت بعد 14 يوماً من سقوط بغداد.
ومن خلال حديث الرجل، تبيَّن أن اجتماعات القيادة بعد الاحتلال ظلّت على حالها، حيث كانت تتم كل شهرين تقريباً خلال هذه السنوات الـ 12 الماضية، وأن أول اجتماع عُقِد بعد 24 يوماً من الاحتلال الأميركي، لم يتغيّب عنه سوى خمسة أعضاء.
ولأن السعدون كان مسئولاً عن منطقة ديالى حتى العام 2015، فقد كَشَفَ أن فرع الحزب في هذه المحافظة عقد اجتماعه بتاريخ 12 إبريل 2003، أي بعد 3 أيام على سقوط بغداد، وظلت اجتماعات الحزب تُعقد فيها كل أسبوعين، حيث كان عدد البعثيين في ديالى ما بين 14 و17 ألفاً!
وكان لكل مكتب من مكاتب الفروع الخمسة في ديالى مجموعة من قيادات الشُعَب، بينها شُعبَتَان نسويتان، وهذه الشعب لها مجموعة من الفرق الحزبية. بل إن تسميات البعث توسّعت بحسب الظرف بعد الاحتلال الأميركي حسب قوله. فمثلاً محافظة نينوى كانت قبل الاحتلال بها خمسة فروع للحزب، ثم أصبحت بعد الاحتلال 12 فرعاً.
ومن الأشياء اللافتة كذلك أن كلاً من: المكتب المهني، والمكتب العمالي المركزي، ومكتب الطلبة والشباب، ومكتب الفلاحين (وهي المكاتب الرئيسة لحزب البعث في العراق) ظلّت تعمل ومازالت. بل واستُجدّ لها مكتبان الأول: للعلاقات الداخلية والآخر للخارجية يتبعان القيادة القُطْرية.
ومن حديث السعدون ظهَرَ أن جميع القيادات البعثية أوكِلَت لها مهمة إدارة محافظة من المحافظات، بما فيها المحافظات الجنوبية، وأن هناك مكتباً أمنياً يُنظّم اجتماعات القيادة حفاظاً على سرّيتها، ويضمن لها الحراسة الشخصية والمواكب والسلاح. وأن تلك القيادات كانت تمتلك 10 جنسيات مزوّرة كي تستطيع أن تجتاز بها نقاط التفتيش.
وقد أفاد السعدون أنه وفي العام 2007، شكَّل حزب البعث القيادة العليا للجهاد والتحرير، وضمّت 23 فصيلاً (بينهم فصائل شيعية)، وكل فصيل له قائد عسكري يأتمر بالقيادة العليا للبعث، وموزعين على كافة مناطق العراق. بينما بقيت تنظميات أخرى مدنية وعسكرية خاصة بالحزب.
وللتدليل على بقاء بُنية الاتصالات في حزب البعث، فقد ظهر أن هناك اشتراكات شهرية وتبرعات تُجبَى، مسئولٌ عن تحصيلها مدير أمانة سر القُطر. وقد بلغت حجم الاشتراكات الشهرية لمنتسبي البعث قرابة الـ 250 ألف دولار.
من الأشياء المهمَّة في حديث السعدون، أن الحزب ظلّ متوثباً لأي حركة شعبية في العراق تنتفض ضد الحكومة في بغداد. فمثلاً في ساحة الاعتصام بالأنبار، أصدر الحزب قراراً بضرورة الالتحاق بها، وأن أيّ متخلف عنها يُفصَل من صفوف الحزب. كما شارك البعثيون في مظاهرات ساحة التحرير ببغداد، وعند المواجهة جُرِح العديد منهم، وكان يدعم حضورهم إعلام مرئي تابع للحزب.
لا أريد أن أسترسل أكثر فيما قاله الرجل، لكن ما أريد أن أخلص إليه هو أن ما قرَّره بريمر قبل 13 عاماً بشأن حزب البعث موجود ولكنه على الورق فقط، أما في الواقع فالأمر مختلف تماماً. فإنهاء المؤسسات وحلّها لا يعني إنهاء وجودها على الأرض ولا تفتيت لخبرتها وشبكة علاقاتها. وعلى العراقيين أن يتأملوا في هذا جيداً.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/06/20