مدرسة التطرف والتكفيريون الأوائل
قاسم حسين ..
شهد العام الـ37 للهجرة، أول معركةٍ في التاريخ شاركت فيها أول حركة عسكرية تكفيرية ظهرت في تاريخ المسلمين.
في فترة وجود الرسول (ص)، كان الصراع بين مسلمين ومشركين، أما بعد رحيله وتحوّل القسم الأكبر من العرب للإسلام، أصبح أغلب الصراع بين المسلمين، حيث بدأت النوازع الأولية للتكفير بالظهور، فهناك من كان يدعو لقتل شخصٍ مسلمٍ آخر بدعوى أنه «كفر». كانت مواقف فردية أفرزتها الصراعات القبلية والحزبية والمالية، لكنها بعد ثلاثة عقود، تحوّلت إلى تيار فكري وقوة سياسية كبيرة، تنحو نحو فرض رأيها بالعنف والقتال. وكانت أول معركة يدخلونها ضد الإمام علي بن أبي طالب (ع) في العام الثالث من خلافته، وكانت أحد عوامل تقويض سلطته وإضعاف حركة الإسلام عموماً.
انشق الخوارج على حكم الإمام لشبهاتٍ، ونتيجةً للمراهقة الفكرية والمزايدات السياسية، فقد ضغطوا عليه أولاً لقبول التحكيم، ولما انكشف عن خديعةٍ كبرى كما حذّرهم، عادوا ليكفّروه لأنه قبِل التحكيم! وطالبوه بأن يشهد على نفسه بالكفر ويعلن عودته للإسلام! وردّ عليهم: «أبعد إيماني بالله، وجهادي مع رسول الله، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين».
كانوا جماعةً منغلقة التفكير، ضيقة الأفق، تمثل تياراً مندفعاً، ميالاً للعنف والقتل. جماعةٌ لم تتشرب قيم الإسلام وسماحته، ولا تدرك أهدافه ومراميه، فانطبعت بطابع الجفاء والغلظة والمعاملة الفظة. يقرأون القرآن فلا يتجاوز تراقيهم، فكانوا يكفّرون عامة المسلمين، ويقتلون في طريقهم حتى الأطفال والنساء، ويستحلون الغدر بمن خالفهم. وكانت شرارة الحرب قتلهم الصحابي عبدالله بن خباب بن الأرت وزوجته الحامل وبقر بطنها، وثلاث نساء من قبيلة طيء.
قبل المعركة، أرسل لهم الإمام عليٌّ ابن عمه عبدالله بن عباس (رض) ليحاورهم بالسنّة وليس بالقرآن، «لأنه حمّال أوجه»، ولمعرفته بلجاجهم وجدالهم الذي لا ينتهي. وحين انتهى من محاورتهم عاد بعضهم إلى الكوفة وبقي الآخرون خارجها، في معسكرهم بالنخيلة. وحين اقترب وقت الصدام المسلح، بشر الإمام أصحابه بقوله: «لن يُقتل منكم عشرةٌ ولن يفلت منهم عشرة».
الثابت تاريخياً، أن الإمام نصح أتباعه بعدم محاربة الخوارج من بعده، فمن ناحيةٍ ستمرّ على مدرسته مرحلةٌ عصيبةٌ، سيكونون خلالها بعيدين عن القرار، ويتعرضّون لاضطهادٍ شديدٍ على يد الأمويين. ومن ناحية ثانية، سيلعب الخوارج كقوةٍ منظمة، دوراً في محاربة الحكم الأموي وإضعافه، وهي مسألةٌ مهمةٌ لما يمثله الأمويون من ثورةٍ مضادةٍ، ومدرسةٍ مناهضة لقيم الإسلام الصحيح، تستبيح كل الحقوق، وتستخف بالقيم والأعراض، وتستولي بنهمٍ شديدٍ على الأموال.
هذه المدرسة التي انبثقت من العقود الأولى للإسلام، لم تندثر بهزيمتها عسكرياً في النهروان، حيث ظلّت بقاياهم كامنةً كخلايا نائمة، ومن بينهم خرج قاتله عبدالرحمن بن ملجم، الذي كان عاشقاً لفتاةٍ منهم، قتل أبوها وأخوها في حرب النهروان، واشترطت عليه مهراً:
ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً... وقتل عليٍّ بالحسام المسمَّمِ.
ظلت هذه المدرسة الفكرية المتطرفة خطرةً على المجتمع الإسلامي، تمارس القتل وعمليات الإرهاب، ويتميّز أتباعها بالاستخفاف بأرواحهم، وكانوا أكثر استخفافاً بأرواح غيرهم من المسلمين، تسوقهم أيديولوجيةٌ منغلقةٌ، على طريقة فرعون: «ما أريكم إلا ما أرى»، ولديهم قناعةٌ عمياء بأنهم وحدهم المؤمنون، ومن سواهم كفّار ومشركون ومصيرهم حتماً إلى النار.
حين أوقع الإمام بهم في النهروان (تقع 35 كم جنوب شرقي بغداد)، صاح أصحابه فرحين: لقد هلك القوم جميعاً، لكن الرجل البصير بالدنيا، قال وهو يتطلّع بعيداً إلى المستقبل، يستشف ما ستأتي به الغيوب: «كلا والله، إنهم نطفٌ في أصلاب الرجال، وقرارات (أرحام) النساء. كلما نجَمَ منهم قرنٌ قُطع، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين». وهو ما حدث تماماً خلال القرنين اللاحقين، حيث كانوا يتقاتلون على القدح والسوط، والعلف والحشيش.
هذه المدرسة التكفيرية المتطرفة لم تمت أو تنتهِ، وظلّت تطلّ برأسها بين كل بضعةٍ قرون.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/06/26