بالصناديق أو بالتوابيت .. العالم يتغير
عبدالمنعم مصطفى ..
بحسب تداعياته المتوقعة على شكل النظام الدولي، فإن تصويت الإنجليز قبل أيام على الخروج من الاتحاد الأوروبي، يستحق أن يكون أهم أحداث هذا العام، مالم يطرأ جديد حتى نهاية العام الجاري، بل ويستحق بنظري أن يكون أهم أحداث عقد بأكمله، أو ربما يكون بدلالاته عنواناً لمستقبل العلاقات الدولية في عقود مقبلة.
ديفيد كاميرون رئيس الحكومة البريطانية، التي أجرت الاستفتاء، بدا هو نفسه،متفاجئاً بالنتائج، حتى بعض البريطانيين الذين صوتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، بدوا وكأنهم لم يكونوا مدركين لفداحة تداعيات هذا الخيار، على وحدة المملكة التي كانت متحدة، إلى ما قبل الاستفتاء.
غالبية من صوتوا للخروج من أوروبا، هم من إنجلترا، أما سكان اسكتلندا، وإيرلندا الشمالية فقد صوت غالبيتهم لصالح البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، وأغلب الظن أنه لا اسكتلندا ولا إيرلندا الشمالية يريدان الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولهذا عادت الدعوات إلى إجراء استفتاء جديد في اسكتلندا ليس حول البقاء في الاتحاد الأوروبي ولكن حول البقاء في المملكة المتحدة. ما يعني أن صميم بقاء المملكة المتحدة بات مهدداً.
أوروبا القديمة، التي مثل تصويت الإنجليز ضدها إهانة بليغة لأحلامها في الوحدة، أيقظها هي أيضا الكابوس الانجليزي، الذي جسد بذاته نموذجاً قد يحتذيه آخرون في أوروبا، لديهم هم أيضا ميول للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولهذا رأينا فرنسا تحث بريطانيا على سرعة تنفيذ إرادة شعبها بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ورأينا من يطالب كاميرون بتنفيذ استقالته الآن وليس في أكتوبر المقبل، حتى تتاح لخليفته فرصة إنجاز برنامج الخروج خلال فترة لا تتجاوز عامين.
إلحاح أوروبا القديمة على بريطانيا بتسريع خطى الخروج، هو بذاته جزء من عملية تنكيل أوروبية بالإنجليز، كما انه يأتي ضمن آليات حماية ما تبقى من الاتحاد الأوروبي، حتى يعرف الجميع في أوروبا، أن للخروج ثمناً باهظاً، وأن دخول الحمام ليس كالخروج منه، غالبية من صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي، كانوا ممن تجاوزوا الخمسين من العمر، وغالبيتهم أيضاً من الإنجليز، أي أن الشباب صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد، ما طرح بدوره تساؤلاً مشروعاً حول مدى جواز أن يتحكم في المستقبل من ينتمون بأغلبيتهم إلى الماضي.
ولهذا فان السؤال الجدير بالطرح هو: لماذا صوتت غالبية البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، رغم خسائر مباشرة، يمكن أن تضرب الاقتصاد البريطاني، وأخرى غير مباشرة قد تهدد وحدة المملكة المتحدة ذاتها، إذا ما ارتأى الأسكتلنديون والأيرلنديون أن مصلحتهم في البقاء مع أوروبا ولو على حساب الوحدة مع إنجلترا ؟!..
هل ما رأيناه في لندن هو نتاج سيطرة ( الشعبوية) أو ديكتاتورية الجهل، أم أن لدى العقل الجمعي البريطاني، ما يمكن أن يبرر هذا التصويت؟!
الموضوع شرحه يطول، لكن بين الأسباب، كما أراها، سبب فلسفي، ربما يعود إلى تأثير التكنولوجيا على الميل العام لدى الناس في عصر التواصل الاجتماعي في عالم افتراضي، فالذين صوتوا لصالح الانفصال، يعيشون حالة تواصل( وهمي) في العالم الافتراضي، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وما نراه على مستوى الدول. هو حاصل جمع ما جرى ويجري على مستوى الأفراد.. فالتكنولوجيا قد عززت الفردية.. وجعلت الانعزال الناتج عن فرط الاتصال ممكناً. ولهذا بات التشظي في المجتمعات الديموقراطية ممكناً، باعتبار أن ثمة قنوات للتواصل الافتراضي، لا تدع حاجة إلى التواصل الطبيعي، الأعلى كلفة في أغلب الأحيان.
الإنجليز دشنوا للتو حقبة من التفكيكية، والانعزال ، قد تصبح عنواناً مسيطراً على المشهد الدولي، غير أن ما يجري في أوروبا عبر الصناديق، يدور في منطقتنا عبر التوابيت.
صحيفة المدينة
أضيف بتاريخ :2016/07/01