آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
شافي الوسعان
عن الكاتب :
كاتب سعودي (الشرق سابقاً - الوطن حالياً)

تمخَّضَ التعليم فولد اليوم التعويضي

 

شافي الوسعان ..

وزارة التعليم أخطأت إذ لم تدرك أن التطوير الفني يجب أن يسبقه تطوير إداري، يتمثل في اختيار القادة وتحديث الأنظمة واللوائح وطرق التقويم وحماية العاملين في المدارس

 

لست من أنصار المدرسة المثالية، ولا أميل إلى تطبيقاتها التربوية على وجه التحديد، ذلك أنها درست المجتمعات بطريقة مثالية حالمة، وتريد منهم أن يكونوا أكبر من قدراتهم وإمكاناتهم، فكانت النتيجة أن حلَّقت بهم بعيدا في سماء الأوهام فيما هم في الواقع لم يرتفعوا ملليمترا واحداً عن الأرض، وأعترف أني في قضايا التعليم (براجماتي) تهمني النتيجة أكثر من أي شيء آخر، إذ لا فائدة من التنظير ما دام منفصلاً عن الواقع، ولا فائدة من الكم على حساب الكيف، فليس معنى أن يكون لديك كماً معرفياً هائلاً من المعارف والمعلومات أن تكون مخرجاتك جيدة، فالعبرة بقيمة ما تقدمه لا حجمه، وليس معنى بقاء الطالب في المدرسة ساعات طويلة أنه سيتعلم أكثر، إذا كان لا يجد ما يفعله طوال مدة بقائه في المدرسة، كما أن الزيادة ليست هدفاً بحد ذاتها، وسيكون أثرها عكسياً حين يقضيها الطالب بمواجهة أوقات من الفراغ، بما يسمح للسأم والملل والضيق أن يتسلل إلى نفسه، فيشعر أن عقارب الساعة قد توقفت عن الدوران، وإنه لا أسوأ من أن تصير المدرسة في عين الطالب عذاباً يتهيأ لاستقباله كل صباح، حين تتحول إلى مجرد أوامر وتعليمات صارمة خالية من أبسط أشكال التشويق والتحفيز والإثارة، لذا فإني لا أعوِّل كثيراً على قرار اليوم التعويضي، ولا أحب التشدد في مسألة تعليق الدراسة دون تشريعات واضحة تُلزم العاملين بالانضباط، بل أراه قضية من ليس لديه قضية، بما أشعرني أن الإخوة المسؤولين في وزارة التعليم قد فشلوا في تحديد نقطة الانطلاق، وأن بوصلتهم لا تشير إلى أي اتجاه، كما أن قراراتهم ومشاريعهم تشي بأن التنظير سيكون هو سيد الموقف!.

 

أعتقد أن المبالغة في الحديث عن اليوم التعويضي هو مثاليٌ أكثر من اللازم، وتصويرٌ غير دقيق للواقع، كما أن فيه خلخلة للأولويات، فالتعليم لدينا ينقصه الكثير، بما يجعل من الحديث عن هذا النوع من القرارات شكلاً من أشكال الترف وتغييب الحقائق، فمدارسنا ما زالت تعاني في مجالات النظافة والبنية التحتية والانضباط الإداري، إلى درجة أنها تستعين بعمال النظافة من الشارع!، فضلاً عما يواجهنا من مشكلات فكرية وفنية، إضافة إلى ما لدينا من نقص وترهل في الأنظمة واللوائح، إلى الحد الذي ارتضينا معه أدنى معايير النجاح، وصار الشخص الناجح في نظرنا هو من يأتي مبكراً ولا ينصرف إلا في آخر الدوام، بغض النظر عن إنتاجيته ومقدرته الفنية والإدارية، المهم أن يكون قادرًا على سد هذا الفراغ، وإسكات الطلبة، بما يمنع أصواتهم من الوصول إلى إدارة المدرسة، وبناء على ذلك فإنه سيحصل على أعلى الدرجات، على اعتبار أنه شخص منضبط، وبالقياس على الواقع سيبدو الأمر طبيعياً إلى درجة أنه لن يجد من ينازعه هذا الحق، رغم أن ذلك لم يقم على أساس معايير التقويم المعروفة، لكنه مبرر ضمن قاعدة : (سددوا وقاربوا) المشار إليها في مقال وزير التعليم قبل أسابيع، ولا أُنكر أني لو كنت مديره لمنحته ذات الدرجة وأنا مرتاح الضمير.

 

إنني أعتقد أن وزارة التعليم قد أخطأت إذ لم تدرك أن التطوير الفني يجب أن يسبقه تطوير إداري، يتمثل في اختيار القادة وتحديث الأنظمة واللوائح وطرق التقويم وحماية العاملين في المدارس، إضافة إلى التأكد من توفر الحد الأدنى من الإمكانات، لأنه حين تكون مدارسك تعاني في مجال النظافة، ويدعوك أحدهم إلى التطوير فإنه يخدعك ويسخر منك، لأن الانشغال بغير النظافة والانصراف عنها إلى أي عمل آخر هو خداع واستغباء.

 

أرجو ألا يُفهم من هذا الكلام أني أعارض قرار اليوم التعويضي، أو أدعو إلى تعليق الدراسة مع كل رشة مطر، بل على العكس من ذلك؛ فإني أدعو إلى الجدية في العمل والانضباط القائم على أساس بَيِّن من التشريعات والأنظمة، لكن هذا القرار وأمثاله يصلح أن يكون مثالاً لما اعتاد البعض عليه من تجاهل للحقائق الواضحة، والانشغال بالهامش على حساب المضمون، أو الاستغراق في التنظير على حساب التطبيق، كما أن تصعيب الحلول والرصد الخاطئ لواقع التعليم يذكرني بما أُثِر عن مجموعة من المفكرين الأوروبيين في القرون الوسطى عندما كانوا جالسين يوماً يتناقشون حول أسنان الحصان، وقد علت صيحاتهم وارتفعت أصواتهم وذهب الجدل بهم كل مذهب، وليس في هذا ما يدعو للغرابة، إنما الغريب في الموضوع هو أن الحصان كان مربوطاً إلى جانبهم، وكان يمكنهم الذهاب إليه وفحص أسنانه، لكنهم لم يفعلوا ذلك غروراً منهم واعتقاداً أنه عمل لا يليق بمفكرين عظام أمثالهم، وهم أرادوا أن يثبتوا للناس أنه يمكنهم الوصول إلى الحقيقة اعتماداً على فكرهم المجرد وذكائهم الخارق، كما كانوا يفعلون ذلك وهم واثقون أنهم يستطيعون التوصل إلى الحقيقة بأنفسهم وعن طريق الجدل وحده، غير أنهم قد انقضت أعمارهم ولم يصلوا إلى قرار واضح بخصوص أسنان الحصان.

 

صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2016/04/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد