النقد والأدب التفاعلي
محمد الديهاجي
في العشرية الأخيرة من الألفية الثالثة، ظهر، في الساحة الأدبية العربية، بشكل لافت لا تخطئه العين، أدبٌ جديد يُكتب على شاشة الحاسوب اختلف المشتغلون في هذا الحقل حول تسميته. فتأرجح الاسم بين الأدب التفاعلي، والأدب الرقمي، والأدب الإلكتروني، والنص المتعاضد، والنص المترابط.. في انتظار تسميات أخرى قد تفي أو لا تفي بالغرض. ولأهمية هذا الموضوع وراهنيته، خصصنا له هذه الورقة في تفاعل تام مع ما يُكتب في الموضوع على قلته.
وقد ارتأينا أن نفتتح مقالنا هذا بسؤال بات يطرح نفسه بحدة شديدة، أكثر من أي وقت مضى: هل يمكن اليوم الحديث عن نقد تفاعلي؟ بصيغة أخرى: النقد في ظل الأدب التفاعلي.. أي واقع وأي أفق؟ هذا السؤال تتفرع عنه مجموعة من الأسئلة، سنكتفي بأهمها. أولا ماذا نقصد بالأدب التفاعلي؟ ثانيا هل يمكن حصر النصوص التي اجتمعت فيها خصائص الأدبية التفاعلية، في خضم هذا الزخم السائل من الإنتاج باسم الأدب على النت، حتى يتسنى للمتلقي القدرة على التمييز بين الغث والسمين؟ ثالثا هل يمكن القول بنقد تفاعلي قادر على مواكبة هذه النصوص من خلال شاشة الحاسوب؛ وهل للناقد اليوم، ثقافة رقمية قادرة على جعله يتفاعل إيجابا مع هذا الأدب الجديد؟
بداية علينا أن نتفق على أن الأدب التفاعلي هو الأدب الذي يستعمل وسيطا إلكترونيا بين عمليتي الإنتاج والتلقي، كما علينا أن نتفق كذلك على أنه ليس كل ما يكتب على النت (مواقع التواصل الاجتماعي مثلا) يعتبر أدبا تفاعليا. فهناك بون شاسع بين الأدب الافتراضي والأدب التفاعلي، ذلك إن النص الافتراضي لا يرقى بأي حال من الأحوال، وإن كُتب على شاشة الحاسوب، إلى النص التفاعلي بسبب افتقاره لشروط الأدبية التفاعلية. ودرءا لهذا اللبس نبادر إلى القول إن الأدب التفاعلي ليس هو كل ما دُوّن إلكترونيا فقط، وإنما هو، بالإضافة إلى ذلك، نص متعاضد.. نص يتفاعل، داخليا، مع أدبيته الممكنة، وخارجيا، مع متلقيه المفترض. ليس من شك إذن في أن الأدب التفاعلي هو أدب يستثمر كل الإمكانات التي تتيحها هذه التقنية، من صوت وصورة ولون وأشكال هندسية وحركية… وغيرها. إلا أنه، مع ذلك وفي نظرنا، لا يمكنه أن يرقى إلى مستوى أن يكون أدبا رقميا، إلا بعد حفظه مما قد يعتريه من عدم المصداقية والسيولة الإنتاجية اللامسؤولة، اللتين تبعدانه عن المحاسبة النقدية من جهة، والاستمرارية حتى يصل إلى الأجيال القادمة من جهة أخرى.
هذا يعني أن شرط المصداقية التفاعلية، إن صح التعبير، مطلب ملح لاكتمال أدبية النص التفاعلي. والمصداقية في هذا العالم الافتراضي، لا تتحقق، في نظرنا، إلا بخلق الكاتب لمنصة تفاعلية إلكترونية خاصة به.. منصة تضمن له حقوق الملكية الفكرية، وتصون نصوصه، وتجعلها متاحة أمام القارئ متى شاء وأراد، لكي يُقبل عليها وهو مطمئن جدا. هذا يعني أن مبدأ الثقة (التفاعلية) المتبادلة بين الكاتب والمتلقي، مسألة أساسية ومحدِّدة لأدبية هذا النص أو ذاك. والحق أن الناقد العربي، في الغالب، ما يزال مندهشا أمام هذا الوضع الجديد، ولم يستوعب بعد هذه اللحظة المفصلية في تاريخ الأدب العربي، إما بسبب تعصبه للأدب المكتوب، أو خوفه على تراثنا الأدبي من النسيان والتلف، أو عدم مواكبته للتطورات التكنولوجية. بدليل أن حجم المواكبات النقدية التفاعلية، يبقى هزيلا وضعيفا بالنظر إلى حجم ما يكتب من نصوص تفاعلية (حقيقية). وإن العوامل والأسباب، تلك التي تجعل المواكبة النقدية لهذا الكم الهائل من النتاج التفاعلي، باهتا وشبه منعدم، كثيرة جدا وسنأتي إلى بعضها بعد قليل.
إن حرية الكتابة والنشر على النت، بمجرد نقرة بفأرة لا قيد لها ولا شرط، فتحت الأبواب على مصراعيها، أمام كلّ من توهم أنه يكتب شيئا شبيها بالأدب، بمثالبه وأخطائه الإملائية والنحوية.
لكنه مع ذلك وللأمانة، ينبغي علينا الإشادة ببعض النقاد الذين آمنوا بهذا الأدب، الذي يُعتبر مستقبل الأدب العالمي برمته، وذلك من خلال متابعتهم لبعض ما يُدوّن إلكترونيا، أو من خلال محاولتهم وضع أسس تنظيرية للأدب التفاعلي، من شأنها أن تيسّر الطريق لجيل جديد من النقاد. جيل ينظر إلى الأدب التفاعلي بعين متفائلة، ويرى فيه قدرة خارقة على جعل النص يتجاوز كل الحدود الفنية والجمالية والجغرافية. من هؤلاء النقاد أذكر بعض الأساتذة الجامعيين المغاربة، الذين كرسوا أسماءهم في جغرافيا الأدب الورقي، وتفاعلوا مع هذا المستجد بأريحية وجدية كبيرتين، كالناقد سعيد يقطين، والكاتب محمد أسليم، والناقدة زهور كرام.. وغيرهم وهم قلة، بل ويعدّون على رؤوس أصابع اليد الواحدة أو اليدين على أقصى تقدير، حسب علمنا.
تجدر الإشارة إلى أننا لسنا هنا بصدد محاسبة هذا النقد أو الأدب، لأن التجربة ما زالت طارئة، ولأن الأدب التفاعلي عموما، إبداعا ونقدا وتنظيرا، ما يزال جنينيا، وتعترض طريقه مجموعة من الصعوبات نجملها في ما يلي:
ـ إن حرية الكتابة والنشر على النت، بمجرد نقرة بفأرة لا قيد لها ولا شرط، فتحت الأبواب على مصراعيها، أمام كلّ من توهم أنه يكتب شيئا شبيها بالأدب، بمثالبه وأخطائه الإملائية والنحوية.. لدرجة أن البقر تشابه على المتلقي، ولم يعد قادرا على التمييز، في الكثير من الأحيان، بين النص وشبيهه.
ـ صعوبة الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية للكاتب، في ظل انتشار عمليات السطو والنقل.
ـ انتشار صنف جديد من المتلقين المهووسين بالتعليقات، وإشارت الإعجاب (اللايكات) بنصوص رديئة جدا، الشيء الذي أعطى الفرصة لجيش ممن يدعون الكتابة في الانتشار، وهم أقرب إلى الرداءة منهم إلى الأدب، لكنهم لا يبصرون.
إن تقنين الأدب التفاعلي العربي اليوم، أصبح مطلبا ملحا، لأنه مستقبلنا لا محالة، وهذا لن يتم، في نظرنا، إلا بالتفكير فيه بجدية ومسؤولية في إطار إمكانية مأسسته عبر ما يلي:
ـ وضع نظرية خاصة بالأدب التفاعلي.
ـ التكثيف من الندوات المتخصصة في الأدب التفاعلي.
ـ عقد ورش تكوينية لأساتذتنا، وتحفيزهم بتوفير المعدات اللازمة.
ـ برمجة الأدب التفاعلي في مؤسساتنا الجامعية والتعليمية الأخرى، مع فتح ورش خاصة بهذا الأدب بشكل مستمر.. ورش تعلم الناشئة كيفية إنتاج وتلقي هذا النوع الجديد من الأدب.
ـ انخراط النقاد العرب، أكاديميا، في التأسيس لوعي نقدي جديد، قد نسميه نقدا تفاعليا.
ـ دعم الدول العربية لهذا المشروع المجتمعي بتخصيص ميزانيات محترمة للكتب والمجلات الرقمية، وكذا تخصيص جوائز تحفيزية لها؛ فضلا عن ضرورة انخراط المنابر الإعلامية المتخصصة في مجال الأدب، في هذا المشروع المجتمعي، من خلال تخصيص مجلات وصحف لهذا الأدب، وكذا تكوين صحافيين مؤهلين وقادرين على مواكبة ما ينشر على النت.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2021/03/05