“مسلسل التجاوزات اللامحدودة”
علي آل حطاب
لفت انتباهي بيان هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر متحدثها الرسمي الدكتور تركي بن عبدالله الشليل، الصادر بتاريخ ١٤٣٦/٥/٥ هجري والموافق يوم الأحد، تحت عنوان مفصل “بيان للمتحدث الرسمي بشأن ما تداولته بعض وسائل الإعلام مؤخرًا من أخبار ومقالات وتقارير تتعلق ببعض الوقائع والقضايا”.
وذلك بعد توالي عدة أحداث ساخنة صدرت من بعض منتسبيها تجاه بعض المواطنين في أزمنة وبمواقع متفرقة، كان أبرزها حادثة الدمية بالخرج، ومطاردة فتاة النخيل مول بالرياض، ثم القبض على الإعلامي القدير علي العلياني بتهم ادعى أنها مفبركة وتعهد بالرد عليها بقوة القانون بعد خروجه بكفالة رسمية، وإثبات الفحوصات الطبيّة براءة دمه مما نُسب إليه.
وسأتولى البحث والرد على أهم ما أتى في هذا البيان، واضعاً الله سبحانه وحدوده وقواعده الشرعية أولاً، والأنظمة والقوانين ومبادئ حقوق الإنسان ثانياً – قدر إمكاناتي – في ضمير الحكم على ما ظهر بين ثنايا هذا البيان من تناقض وتِكرار ومغالطات.
شرع المتحدث في بيانه بتأكيد حرص الهيئة على مبدأ الشفافية والتزامها بالتعليمات الرسمية الملزمة بالرد على ما ينشر في وسائل الإعلام،ونشيد بهذا المبدأ والالتزام شكلاً وننتقده مضموناً، كوننا لم نعتاد من هذا الجهاز إصدار بيانات محايدة، تدين صراحةً وبشفافية أعضائها المتجاوزين، قدر ما اعتدنا على قراءة صكوك براءة تتضمن في حالات نادرة، قليل من اللوم بحق أحدهم دون إقرار ذنب أو إنزال عقوبة، علماً أن معظم هذه الانتهاكات تكون بحق المواطنين علناً، ومن أعضاء ميدانيين.
لذا وجب أن تكون العقوبة محددة ومُعلنة أيضاً، من باب الإنصاف والاتباع الشرعي لمبدأ الجزاء من جنس العمل. فقد أقامت الشريعة الإسلامية أصل المساواة في أحكامها، وبّين النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك بجلاء في شفاعة وجهاء لامرأة شريفة وجب عليها حد السرقة، فأبى النبي – صلى الله عليه وسلم – لإخلال ذلك بمبدأ المساواة بين العبِاد. فقال: (إِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ،والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
فيما برر البيان في النقطة الثانية عدم تعليق الرئاسة على بعض القضايا لحجة الستر والحفاظ على الأعراض! مطبقين بذلك المثل الشعبي القائل “ضربني وبكى وسبقني واشتكى” ومتخذين من العزة بالإثم شِعاراً لهم، متجاهلين إن أكبر إشكالات المجتمع مع الهيئة هي التشهير في القضايا الأخلاقية سواء بالتصيد أو الاستدراج، ولو كان ما يدّعونه من الستر صحيحاً لما سمعنا ولا تألمنا ولا شكينا من تكرار الأحداث وبنفس السيناريو، من مطاردات ومداهمات راح ضحيتها بعض الشباب السعودي، كان من آخرها مطاردة فتاة مول النخيل، التي كانت عرضة للدهس لولا رحمة الله. فحرمة العرض لا تستقيم بدون حرمة النفس، والحرص على سلامة العِباد من الأذى، أولى أو توازي أهمية الستر والسُمعة.
ورأينا أيضاً كيف تم نشر وتكييف المشهد في صوّر القبض على الأخ علي العلياني من قبل أعضاء الهيئة، بما يضعه مُدان بما لا يدع مجالاً للشك! رغم أن الأصل القانوني يؤكد على براءة المتهم حتى تثبت إدانته بعد التحقيق والإجراءات الرسمية، فعن أي ستر وعن أي جوانب أخلاقية تتكلمون!
فيما استطرد البيان في نقطته الثالثة بقول “الرئاسة العامة بحكم اختصاصها تعالج العديد من المخالفات, وتكون هذه المعالجة على شقين: أولاهما: الإنهاء في حينه بالمناصحة والتوجيه أو التعهد, وهذا يشكل كثيرًا من إجمالي المخالفات التي تعالجها الرئاسة العامة. وثانيهما: الإحالة لجهات الاختصاص, وهذا يشكل النسبة الأقل”.
والتساؤل، إذا كانت معظم المخالفات يتم علاجها في حينها، فيما القلة القليلة تُحال لجهات الاختصاص، فما هي نسبة “الإنهاء” إلى “الإحالة” وما معنى تشكي الناس من كثرة الإدانات والملفات المعلّقة مع الهيئة ؟
خصوصاً إذا ما علِمنا أنه يوجد حالياً قرابة المائة وخمسون سجيناً في منطقة عسير وحدها نتيجة تُهم تمت بطريقة الاستدراج! وقد وجّه مؤخراً خطاب من رئيس هيئة التحقيق والإدعاء بعسير لهيئة عسير ينكر فيها الآلية المتبعة، ويطالب بعدم إحالة مزيداً من قضايا الاستدراج، وحرص فيه خطابه على أهمية الالتزام بنظام الإجراءات الجزائية. ونَذكُر هنا تماشياً مع ما ذكره النظام حديث” أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَّلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا ، فَنَادَى بِصَوْتٍ أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي الْخُدُورِ : ” يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُسْلِمْ بِقَلْبِهِ ، أَلَا لَا تُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْتَابُوهُمْ ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَضَحَهُ فِي بَيْتِهِ “.
ثم يستشهد البيان بقلة تجاوز منسوبيه وفق دراسة علمية متخصصة أعدها وأنجزها معهد البحوث والخدمات الاستشارية بجامعة الأمام محمد بن سعود ! وكأننا نجهل أن أغلب قيادي الرئاسة خريجي ذات الجامعة، وأن كثيراً من المتعاونين معهم من طلابها، ثم نتسائل مرة أخرى، هل ستسمح الرئاسة لأي جهة رسمية أخرى، أو لنشطاء ومختصين سعوديين مستقلين بعمل نفس الدراسة ؟ مع شرط وضمانة أن تكون دراسة وبحث يهدف لتطوير وتحسين الأداء، لا بنّية التعقب والتصيد.
ثم استعرض البيان في ختاميتهُ الحزم الإجرائية التي تتخذها الرئاسة، من برامج ومشاريع تهدف للتطوير وتدريب الأعضاء ميدانياً، ورفع كفائتهم نظرياً وتقنياً، إلا أن المواطن البسيط في الحقيقة لا يهمه “الكم”من تلك البرامج ولا حجم الإنفاق عليها، بقدر ما يهمه “الكيف” وفعاليتها على أرض الواقع.
أخيراً، إنني وكثير غيري فضل احتفاظ الرئاسة ببيانها عوضاً عن هذا الاستعراض الدعائي الرسمي، الذي عمدت فيه على شرح مبادراتها بتعيين متحدثين رسمين ومساعدين لهم في جميع فروعها، وتزويدهم بالمهارات الكافية للتعامل مع الإعلام بوضوح وشفافية! فيما بدا لنا الأمر عكس ذلك تماماً، ففي الوقت الذي كُنا ننتظر منها الإجابات الشافية عن مخالفات بعض أفرادها في الخرج والرياض وغيرها، بما يُهديء فضول الشارع، ويصون كرامته، ويطمئنه على سلامة الإجراءات وبُعدها عن الأساليب المُمنهجة، ننصدم ونجد هذا الاستعراض الأنوي والتجاهل الكامل للمجتمع، وكأن شيئاً لم يحدث! والكارثة إننا نعلم وتعلمون جيداً، ماهو خلل ومعنى تعايش وانسجام المجتمع مع أساليب ومظاهر العنف والتطرف فيه.
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2016/02/16