ضد وعد بلفور.. بالخيال أيضاً
معن البياري
ليس اكتمال مائة عام اليوم على إشهار تصريح الوزير البريطاني، آرثر بلفور، بمنح اليهود "وطنا قوميا" لهم في فلسطين، مناسبةً فقط لتذكّر تلك الجريمة، بل أيضا مناسبة لقراءة أرشيف أزعومة "حقٍّ" لليهود في فلسطين وطنا أو دولة لهم، ففيه كثيرٌ من العجيب الذي ينسف هذه المقولة، كما ورد عند الصهاينة الأوائل، ومنه أن فلسطين لم تكن موضوع هوس هؤلاء، ولم يتطلعوا في الأساس إليها لإقامة دولة اليهود فيها.
فهذا صاحب الفكرة الصهيونية الأول، النمساوي تيودور هرتزل، يدعو، في مؤلّفه "الدولة اليهودية" الذي أصدره قبل عام من المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا في العام 1897، إلى إقامة هذه الدولة "في أي مكان". وحبّذ، بشيءٍ من الحماس، الأرجنتين، لأنها "واسعةٌ وثرواتها شاسعة"، بل إنه حاول حيازة موزمبيق والكونغو لهذا الغرض، وتحاور مع الانكليز بشأن أوغندا، فرفضوا، ثم قبل وفاته قبل العام 1903 عرضوها عليه، وتبنّاها "دولة مؤقتة" (!)، في المؤتمر الصهيوني السادس.
صحيحٌ أن الصهاينة طرحوا فلسطين خيارا في مؤتمرهم الأول، غير أن الإنكليز لو فعلوها وأعطوا "الوعد" بأرضٍ أخرى، لوافق أولئك ربما، ما كان سُيسقط تماما خرافتهم "أرض الميعاد". وليس هرتزل وحده من "اشتهى" غير فلسطين، بل فكّر ورثةٌ له بغيرها، بقبرص مثلا، كما أن منظماتٍ صهيونيةً أوفدت بعثتين إلى ليبيا لاستكشافها إن كانت تصلح "وطنا قوميا" لليهود. وحسب الباحث البحريني الراحل، خالد البسام، اقترح صهيونيّ روسيّ بارز على الخارجية البريطانية البحرين، قبل شهرين من إطلاق بلفور تصريحه.
مؤدّى هذه الحقائق أنه كان في وسع "حكومة صاحب الجلالة" في بريطانيا أن تنظر "بعين العطف" إلى إقامة "وطنٍ قومي لليهود" في غير فلسطين، لو أن التاريخ كان أقلّ مكرا بالفلسطينيين. والخلاصة الأهم في واقعة الوعد الذي يظل عارا ناجزا على بريطانيا أن الحركة الصهيونية، بهمّة حاييم وايزمان وأقرانه، نجحت في نزع الهوية الوطنية لملايين اليهود، باعتبارهم مواطنين في بلدانهم، وربطتهم بدولةٍ ملفقةٍ سمّوها إسرائيل، وأقاموها على أرضٍ أبيحت لهم، تحالفت الخرافات مع أحابيل التاريخ، القاسي في دواليبه عندما تدور، فكانت فلسطين هذه الأرض.
ومن فرط ما قد تجوز تسميتها "الوطنية اليهودية" الطارئة في فلسطين، نُصادف محمود درويش يقول عن الشاعر الإسرائيلي إيهود عميحاي (1924 - 2000)، إنه "لم يَدَعْ مكانا في فلسطين التي يسمّيها أرض إسرائيل إلا وكتب فيها قصائد، وبعضها جميل جدا، ويُحرج الشاعر الفلسطيني حقا".
هل في الوسع حل الصراع مع هؤلاء اليهود، بتحريرهم من الخرافة أولا، ومن الولع الذي أحدثه الصهاينة فيهم بفلسطين؟ ربما يحتاج الأمر إلى خيالٍ عالٍ، وقد صار مستعصيا حله بحروبٍ عربيةٍ جسورةٍ غائبة، أو بعملية السلام السخيفة.
طرحت الأميركية اللبنانية، هيلين توماس، في العام 2010، من مخيلتها فحسب، حلا بعودة اليهود من فلسطين إلى أوطانهم الأصلية. أما رجل الأعمال الفلسطيني الناشط في اقتصاديات المعرفة، طلال أبو غزالة، فكان خياله "عمليا"، عندما اقترح، في 2010 أيضا، تمويل "صندوقٍ عالمي لإعادة اليهود إلى بلادهم"، موضحا أنه يقصد "المهجّرين اليهود إلى فلسطين"، وأن مبادرته تأتي "إعمالاً بشرعية حقوق الإنسان، وكل المواثيق الدولية التي تقول بحقوق المهجّرين مهما طال الزمن"، معطوفا هذا كله مع مقاومة الاحتلال. وأفاد بأن يهودا هُجّروا إلى فلسطين وفلسطينيين هُجّروا من فلسطين، والحل في عودة كل مُهجّرٍ إلى بلده.
لم لا؟ لماذا لا يطرح العرب، مثلا، عودة يهودهم من فلسطين إلى أوطانهم. وفي البال أن المنصف المرزوقي كان شجاعاً، في أثناء رئاسته، لمّا دعا يهود تونس في "إسرائيل" للعودة إلى بلدهم، حيث سيجدون العناية والرعاية، كما قال. وكان القيادي في "الإخوان المسلمين"، عصام العريان، شجاعا عندما فعلها في 2013، ودعا اليهود المصريين في فلسطين المحتلة للعودة إلى بلدهم.
هي خواطر تداعت، هنا، كيفما اتفق ربما، في الذكرى المائة للوعد البريطاني المشؤوم، يسوّغها أنه كان في وسع أسلاف تيريزا ماي في حكومة بريطانيا في العام 2017 أن يطلبوا من وزير الخارجية، اللورد آرثر جيمس بلفور، إرسال خطابه إلى اللورد روتشليد بوعدٍ بأرضٍ أخرى غير فلسطين، لو أن للتاريخ أحكاما غير التي نعرف، والتي لا نعرف.
العربي الجديد
أضيف بتاريخ :2017/11/02