معركة أمراء آل سعود: فخار يكسّر بعضه
مضاوي الرشيد
سألني أحد الصحافيين عن ردة فعل النظام السعودي على حملة اعتقال الأمراء بالجملة، التي شنّها ولي العهد محمد بن سلمان، ويبدو أن الصحافي غير مطلع على الأحوال الداخلية للنظام. كان ردّي يتلخص بالآتي: سياسياً، يتكوّن المجتمع السعودي من فئات غير متجانسة في علاقتها مع النظام، حيث نجد الشرائح المتعددة ومنها،
أولاً، أقلية منتفعة من النظام مهمتها الترويج لسياسته بصفتها «حكمة إلهية» حلّت على البلد والعباد. ونجد هذه الأقلية في الصحافة ومراكز صنع القرار وأروقة المؤسسات الدينية والاجتماعية والشرائح العسكرية والإستخبارية والمدنية.
وهي تتكون من مجموعات من مناطق مختلفة وقبائل متفرعة. وهذه الشريحة تظل موالية للنظام بسبب ارتباطها العضوي، ويبقى مصيرها مرتبطاً به لأنها تعلم أن أي هزة في أروقة الحكم ستكون هي ضحيتها الأولى. وقد تلقفت هذه الفئة خبر اعتقالات الأمراء وغيرهم وكأنها المرحلة الأولى التي ستنتشل السعودية من فساد مستشرٍ أدى إلى غرق المواطنين في المدن ووفاة الحجاج بحوادث البناء والتنمية المزعومة للحرم المكي في مواسم الحج، إلى ما هنالك من فساد يطال القطاع الصحي والتعليمي وتنمية البنية التحتية، ناهيك عن النفط الذي يباع بشكل شخصي كهبة للأمراء والأراضي المسلوبة التي تمنح لهم كهبة ومكافأة على ولائهم.
ثانياً، هناك فئة صامتة يهمها أن تنجو بنفسها من بطش الأمراء ومعاركهم الداخلية، التي هي في الأول والأخير ليست معركة المجتمع، وهي تنظر لتصفيات محمد بن سلمان كأنها لعبة داخلية لا علاقة لها بتفاصيلها. وكل ما تصبو إليه هذه الفئة هو النجاة في مرحلة الطيش السياسي الذي بدأ مع تولي محمد بن سلمان كل السلطات في الدولة من أمن إلى دفاع، مروراً بالعلاقات الخارجية والاقتصاد والاستخبارات، وأخيراً مكافحة الفساد.
هناك فئة صامتة يهمّها أن تنجو بنفسها من بطش الأمراء
وقد ازداد صمت هذه الفئة الكبيرة المجتمعية في الآونة الأخيرة بسبب البطش الذي نال المثقفين والناشطين خلال الأشهر القليلة الماضية، وحملة الاعتقالات الواسعة التي شنّت ضد أشخاص، جريمة بعضهم أنهم انتقدوا السياسة الاقتصادية أو الأزمات الإقليمية التي كان النظام السعودي اللاعب الأكبر في تحريكها، من حرب اليمن إلى الأزمة مع قطر، مروراً بالأزمة المفتعلة في لبنان التي دبّرها النظام السعودي من الرياض.
الصمت في السعودية ممنوع، إذ إن المطلوب من جميع شرائح المجتمع أن تكون بوقاً فعّالاً يبارك ويروّج لجميع سياسات النظام من دون استثناء.
أما الفئة الأخيرة، فهي فئة المعارضين في الخارج والذين لم تنطلِ عليهم حيلة «مكافحة الإرهاب» تماماً كما لم يصدقوا حملة النظام على الإرهاب والتشدد الديني والترويج للسلم المعتدل حسب دعاية محمد بن سلمان. هذه المعارضة حتى اللحظة، تبدو مفككة ومشتتة، وهذا ليس بالغريب أو المستهجن، إذ إنها تعبر عن تعددية في الطرح والأيديولوجيا، منهم من هو معني بحقوق الإنسان والحقوق المدنية والسياسية، ومنهم من يعترض فقط على التشدد الديني، ومنهم من يطمح إلى إقامة دولة إسلامية تكون أكثر اقتراباً ًمن إرث محمد بن عبد الوهاب والذي يعتبرونه مفكر الإسلام الأول والأخير.
ومنهم أيضاً من يطالب بحقوق وطنية تتجاوز طموحات البعض في إصلاح النظام، حيث يعتقد هؤلاء أن الصلح مستحيل في ظل ملكية مطلقة بشكلها السلماني الحالي أو حتى قبل ذلك عندما ظهر النظام بحلّة الإنسانية التي روّجتها الآلة العلمية المتصلة بالملك عبدالله الراحل. أما الحلة الجديدة السلمانية، فتبدو شرسة تأكل أبناءها أولاً ثم المجتمع ثانياً لتنتصر بالقهر والبطش بعدما ابتعدت عن الإجماع السياسي ولجأت إلى التفرد بالقرار كلياً.
وهناك الشريحة النسوية التي ظهرت أخيراً على الساحة السعودية بقوة غير معهودة، وطالبت بحقوق مسلوبة مثل الحق في العمل في قطاعات مختلفة وحق قيادة السيارة وحق إسقاط الولاية وغيره من عوائق تقيد المرأة وتجعلها في المرتبة الثانية اجتماعياً وحقوقياً. لكن حتى الحركة النسوية منقسمة على ذاتها، منها من هو مرتبط بالنظام، ومنها من يريد العودة إلى حقوق من منظومة إسلامية، ومنها من ربط الحقوق النسوية بتغيير شامل سياسي ينال فيه الرجل والمرأة حقوقهما السياسية.
تعجز هذه الفئات السعودية المتباينة عن أن تلتحم كقوة تستطيع أن تفرض نفسها على الساحة السعودية كبديل لحكم الفرد بسبب عقود الاسترخاء التي رافقت الطفرة النفطية وسياسة الحكم المبنية على فرّق تسد ومعطيات البلد كمساحة فيها تعددية قبلية ومناطقية وطائفية وطبقية.
وقد حارب النظام أي تيار يمهد لنشوء الحس الوطني الذي لا تقسمه مثل هذه الانقسامات. وبرغم الترويج للوطنية دوماً، إلا أننا نجدها شحيحة حيث هي مطلوبة أي في العمل السياسي الوطني، فالنظام يعتبر الوطنية إثبات الولاء له، أما الوطنية الحقيقية فهي تجاوز الانقسامات المجتمعية وتنمية العصبية الوطنية الشاملة على حساب العصبيات الضيقة من قبلية وطائفية ومناطقية وطبقية. وطالما ظلت هذه الانقسامات تنمو وتترعرع في ظل النظام الفردي القمعي، لن يقدر المجتمع السعودي أن يقاوم البطش والتهميش الذي يتعرض له. وستبقى الساحة فارغة إلا من رجال النظام وآلته الأمنية من دون أن يجد المجتمع مساحته الخاصة ومجتمعه المدني الذي يعطيه القوة، وبها يستطيع مقاومة الاستبداد. إن أول خطوة في هذا الطريق هي تأسيس مساحة للعمال والموظفين والأساتذة والمعلمات وغيرهم من القطاعات الاقتصادية والوظيفية تكون عامل ضغط تطالب بحقوق العمل الجماعية وتستطيع بالعمل السلمي أن تهز النظام بالإضراب والاعتصام وغيره من أساليب المقاومة السلمية. وبما أن مثل هذه التجمعات العمالية غير مسموحة، لذلك توفر وسائل التواصل الاجتماعي شراكة ولحمة غير ممكنة على أرض الواقع حالياً. ومن دون هذا العمل الجماعي الذي قد يبدأ إلكترونياً، لن يستطيع المجتمع مقاومة الاستبداد الحالي وحيداً.
المجتمع فقط هو من سيحدد نجاح التنمية أو فشلها في مرحلة ما بعد النفط. وإن لم يحضر المجتمع نفسه، سيجد أن ثروته قد تم تبذيرها ونهبها من قبل أمراء ورجال أعمال سيتركون البلد عند أول خضة. وسيبقى المجتمع يتساءل كيف وصلت الحال إلى هذا؟ بداية الحراك تبدأ من اقتناع بأن العمل الجماعي السلمي هو الملاذ الأول والأخير لخلاص البلد من الحكم التسلطي وسرقة المال العام. وأي معركة ضد الفساد تبدأ برأس الهرم. ومن أجل أن تنجح المعركة، يجب أن تتوفر لها خلفية، أهمها القضاء المستقل والشفافية. أما إذا كانت المعركة واجهة لتصفية حسابات مع منافسين من الأمراء، فهي معركة خاسرة من بدايتها. ولهذا، هي ليست معركة الشعب السعودي الذي سينظر إليها من زاوية «فخار يكسّر بعضه».
أضيف بتاريخ :2017/11/12