باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلبُ الرجال فما أغنتهم القُللُ
مشعل عثمان السعيد
أيها السادة، تأملوا هذا البيت طويلاً وخذوا مني معناه، فهو بيت حكمة يقول: بات الملوك الظلمة الجبابرة مرفهين منعمين في قصورهم الشاهقة بين الخدم والحشم، يحرسهم أشداء الرجال الجلاوزة الذين لا يعصونهم، نسوا مآلهم وتغافلوا عما ينتظرهم من سوء المنقلب وبئس المصير، فهل أغنى عنهم ملكهم وقصورهم وأموالهم ورجالهم شيئا؟!
“ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه (29) خُذوه فَغُلُّوهُ (30) ثم الجحيم صَلُّوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه(32)” (الحاقة). نعم جاءهم رسول الموت على حين غفلة منهم فلم يُمهلهم، فقبض أرواحهم وتركهم جثثاً هامدة، فاستنزلهم من عزهم ومنعتهم وجبروتهم وحصونهم وقلاعهم فكان حالهم:
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم
وأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ويل لهم مما اقترفت أيديهم، ذهب عنهم كل شيء وباتوا تحت الثرى والحجارة تعفوهم الأعاصير، تركوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا، ونزلوا منزلاً تقشعر له الأبدان غرهم بالله الغرور فإذا بعملهم ينتظرهم: “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”، فاحذروا الدنيا ولا يعمينكم حبها عن الآخرة، “وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133)” (آل عمران). وتأملوا حال هؤلاء الملوك بعدما قبروا.
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا
اين الأَسرة والتيجان والحللُ
أين الوجوه التي كانت منعمةً
من دونها تضرب الاستار والكللُ
لم ينطقوا ببنت شفة، فأجاب القبر عنهم قائلاً:
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا
فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
وطالما عمروا دوراً لتحصنهم
ففارقوا الدور والأهلين وارتحلوا
وطالما كنزوا الأموال وادخروا
فخلفوها على الأعداء وانتقلوا
هذه بعض أبيات القصيدة، وهي منسوبة إلى الامام علي الهادي ابو الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، رضوان الله عليهم، بن ابي طالب “عبد مناف” بن عبدالمطلب “شيبة الحمد” بن هاشم “عمرو”، أمه أم ولد يقال لها سمانة المغربية ولها اسماء اخرى “سوسن، جمانة” وتكنى ام الفضل، ولد في المدينة المنورة سنة 212 هـ، وانتقل أمر الإمامة إليه بعد والده محمد الجواد وله من العمر ثماني سنوات ومدة امامته اربع وثلاثون سنة.
عاصر من خلفاء الدولة العباسية محمد المعتصم وهارون الواثق وجعفر المتوكل، وأبيات علي الهادي التي ذكرتها أنشدها بين يدي المتوكل في قصة ذكرها الطبري في تاريخه واوردها ابن خلكان في وفيات الاعيان بعد ان جاء به من المدينة المنورة وأسكنه مدينة سامراء، ذكر “اليعقوبي” في تاريخه انه توفي يوم الاثنين الثالث من رجب سنة 254هـ في داره بسامراء، وكان عمره 42 سنة، وقال ايضا: اجتمع الناس في دار الهادي وخارجها، فلم يتسع ذلك الناس فأخرجوا جثمانه الى الشارع المعروف بشارع أبي احمد، وهو من اطول شوارع سامراء واعرضها حتى يتسع المكان لأداء الصلاة، وصلى عليه ابو احمد بن هارون الرشيد بأمر الخليفة المعتز بالله العباسي، ثم دفن بداره، رحمه الله تعالى، وقد تذكرت وانا اكتب ابيات علي الهادي ابياتا قريبة منها قالها الشاعر ابو العتاهية بين يدي الخليفة العباسي هارون الرشيد، فقد دخل ابو العتاهية على الرشيد وقد بنى قصرا جديدا وزخرف جدرانه وهو بين خواصه، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فأنشأ يقول:
“عش ما بدا لك سالما
في ظل شاهقة القصورِ
يسعى عليك بما اشتهيت
لدى الرواح الى البكورِ
فاذا النفوس تقعقعت
عن ضيق حشرجة الصدورِ
فهناك تعلم موقناً
ما كنت إلا في غرورِ
فبكى الرشيد بكاء كثيرا، فقال الفضل بن يحيى لأبي العتاهية: دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته! فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره انه يزيدنا عمى “ابن كثير” ولا بأس من ذكر بعض ترجمة محمد الجواد والد أبو الحسن علي الهادي لزيادة الفائدة، ذكر ابن الجوزي في تاريخه المنتظم انه ولد سنة مئة وخمس وتسعين للهجرة.
وقدم من المدينة المنورة إلى بغداد وافداً على الخلفية العباسي محمد المعتصم في بغداد، ومعه زوجته أم الفضل بنت عبدالله المأمون، فتوفي في بغداد يوم الثلاثاء لخمس ليال خلوْن من ذي الحجة سنة عشرين ومئتين للهجرة، وصلى عليه ولي عهد المعتصم هارون الواثق، ثم حمل ودفن في مقابر قريش عند جده موسى بن جعفر وهو ابن خمس وعشرين وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً، وحملت زوجته إلى قصر المعتصم وجعلت في جملة الحرم، وقد ذكرت بعض المصادر انه مات مسموما والله أعلم.
اكتفي بهذا القدر، جف القلم ونشفت المحبرة، في أمان الله.
السياسة الكويتية.
أضيف بتاريخ :2018/05/13