آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الباري عطوان
عن الكاتب :
كاتب وصحفي سياسي فلسطيني رئيس تحرير صحيفة رأي اليوم

المسألة ليست في فراغ ثلاجة السيسي لعشر سنوات إلا من المياه.. وإنما لماذا كانت فارغة؟

 

الأستاذ عبد الباري عطوان ..

منتصف شهر آب (أغسطس) الماضي خصصت مجلة “الايكونومست” البريطانية العريقة غلافها للحديث عن الأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر، حمل عنوانا صادما “خراب مصر”، وتنبأت المجلة في تقريرها المطول بثورة شبابية وشيكة، حيث تصل معدلات البطالة إلى 40%، وقالت إن أمام الشباب خيارين “أفضلهما الهجرة وأسوأهما التطرف”.

 

نبوءة “الايكونومست” بدأت تتحقق تدريجيا، وملامح الانهيار في الاقتصاد المصري بدأت تتبلور، والغضب الشعبي يتفاقم، وكان سائق “التوك توك” الذي انفجر ناقدا للأوضاع المعيشية الصعبة بأسلوب صادق ومعبر، أحد أبرز أوجه التعبير في هذا الصدد.

 

 فمصر عادت إلى عهد الطوابير أمام الجمعيات ومحلات البقالة التي كانت سائدة في السبعينيات، فالمحلات خاوية، وأزمة اختفاء السكر تعكس “رمزية” حالة السخط وارتفاع الأسعار، واختفاء السلع الضرورية.

 

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرأ تقرير المجلة البريطانية حتما، وهذا ما يفسر اختياره افتتاح المؤتمر الوطني للشباب لإلقاء خطبة عاطفية، أكد فيها أنه قضى 10 سنوات وثلاجته خاوية إلا من الماء، واعترف بالأزمات الخانقة، وأكد أنه مسؤول عن الحفاظ على الدولة من السقوط، وتوفير فرص العيش الكريم، والصحة الجيدة، وفرص العمل والإسكان للشباب، وحذر من تحركات يمكن أن تهدم البلد، ودعا للحوار، وتعهد بالإفراج عن شباب معتقلين دون محاكمة، وانتقد وسائل الإعلام، وقال إنها “بعيدة عن الواقع″.

 

***

الرئيس السيسي بدأ يدرك حجم الأخطار الحقيقية التي تهدد نظامه، وأراد أن يستميل الشباب إلى صفه، ولكن فرص هذا الإدراك من النجاح تبدو محدودة، لأن حالة الغليان التي تسود الشارع المصري أوشكت على الانفجار، وقد تكون الدعوة للتظاهر يوم 11 تشرين الثاني “نوفمبر” المقبل ضد الغلاء، وترفع شعار “ثورة الغلابة”، هي المفجر للاحتقان الشعبي المتضخم في مصر.

 

مشاكل مصر عديدة، لكن أهمها في رأينا هي استفحال الفساد، وسوء الإدارة، والثراء الفاحش لنخبة صغيرة تمتص عرق الأغلبية الساحقة المعدمة، وغياب أي قضية وطنية جامعة توحد الشعب المصري، وتجعله يقدم التضحيات لبلده وأمته.

 

فمن الخطأ، بل من غير الأخلاقي، مطالبة الشعب المصري بالصبر، وتحمل الأزمات المعيشية التي باتت تستعصي على التحمل، في ظل الفساد، واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، بطريقة يصعب ردمها أو تقليصها.

 

كتبت علي الأقدار أن أعيش في مصر في السنة الأخيرة من حكم الرئيس جمال عبد الناصر، والسنوات الأربع الأولى من حكم الرئيس “المواطن” محمد أنور السادات، وهي واحدة من أحرج الفترات في تاريخ هذا البلد، لأنها جاءت بعد هزيمة عام 1967.

 

في زمن عبد الناصر كان كل شيء في مصر من صنعها وابنائها، ابتداء من معجون الأسنان، وانتهاء بالسيارات والحافلات، فالجميع يرتدي الملابس القطنية والصوفية المصرية، وينتعل الأحذية المصنعة محليا، وكانت البضائع المستوردة محصورة في شارع جانبي صغير، اسمه شارع الشواربي، لا يزيد طوله عن 50 مترا ويضم “بوتيكات” صغيرة تعرض بعض الملابس المستوردة بطريقة سرية خوفا من المصادرة.

 

 بعد أقل من عام من وفاة الرئيس عبد الناصر، بدأ الرئيس السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي، وإبعاد المستشارين السوفييت، وبات كمال أدهم رئيس المخابرات السعودية الحاكم الخفي في مصر، وحل الأمريكان محل السوفييت، وبدأت حالة من الغلاء لم يسبق لها مثيل، وبدأ الشعب المصري يعرف طوابير الدجاج والسكر والزيت إلى آخر القائمة، للمرة الأولى في تاريخه.

 

لا ننفي أن عهد الرئيس عبدالناصر اتسم ببعض السلبيات، وأبرزها مصادرة بعض الحريات، ووجود بعض حالات الفساد في أوساط بعض الضباط والفئة المحيطة بالنظام، ولكن الشعب المصري كان يعيش حالة من الرخاء، والهيبة، والكرامة، وعزة النفس، والاستقلال الحقيقي، فالتعليم كان أفضل، والجامعات المصرية تتصدر المقدمة مع مثيلاتها، ومعظم الطلاب العرب والأفارقة يدرسون فيها، والمرضى يحجون إلى مستشفياتها من دول الخليج والمغرب العربي طلبا للعلاج.

 

عودتنا إلى فترات مشرقة للماضي المصري (الرئيس عبد الناصر مات دون أن يملك بيتا أو رصيدا في البنك، أو حتى ما يورثه لأولاده)، لا يعني أننا نطالب بالشيء نفسه، فما كان جائزا قبل خمسين عاما، ربما لا يصلح اليوم في ظل المتغيرات العالمية على الصعد كافة، ولكن ما نريد التأكيد عليه أن مصر تعيش حالة انهيار اقتصادي، ناجم عن سوء الإدارة، وانعدام قيم العمل، وغياب الحكم الرشيد، وتغول إعلام بارع في التضليل والنفاق والتزوير.

***

مصر بحاجة إلى ثورة إدارية وأخرى سياسية، مثلما هي بحاجة إلى ثورة اجتماعية، ومصالحة وطنية تقود إلى هوية مصرية عربية إسلامية مدنية جامعة، يتوحد الجميع تحت مظلتها، وإلا فأن “ثورة الغلابة” ستطيح بالرئيس الثالث في أقل من ست سنوات.

 

الرئيس السيسي قال في خطابه “إن مصر تواجه لحظة الحقيقة ولا يمكن تجنب تحقيق إصلاحات اقتصادية  صعبة ومؤجلة”، واعترف “أن صبر المصريين بدأ ينفذ”، وطالب بالحوار، وتشكيل لجنة لبحث الإفراج عن بعض الشباب، وفي تقديرنا هذه الخطوات “ترقيعية” و”غير كافية”، أن لم تكن متأخرة أيضا.

 

مصر بحاجة إلى قيادة تملك “رؤية”، وتحظى بدعم الشعب وتأييده ومساندته، وتستند إلى مشروع وطني ريادي وقيادي يعيدها إلى مكانتها التي تستحقها، ومن المظلم أننا لا نرى هذا المشروع، ولا نرى هذه القيادة في الوقت الراهن.

 

لا نريد أن تكون ثلاجة الرئيس السيسي، أو أي مواطن مصري آخر فارغة، نريدها مليئة باللحوم والطيور والعصائر والخضروات مثل كل ثلاجات شعوب أخرى، كانت متخلفة جدا بالمقارنة مع مصر، مثل اليابان وكوريا وماليزيا والصين والقائمة طويلة.

 

ثلاجة الرئيس السيسي كانت فارغة بسبب الفساد، وسوء الإدارة، والقيادة الخطأ، التي تبنت نصائح كمال أدهم وذهبت إلى كامب ديفيد، وتخلت عن دورها القيادي والريادي ومشروعها الوطني.

 

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2016/10/26

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد