العقل القادح والعقل الباحث
عبدالله المطيري
هذا المقال محاولة للتفريق بين نوعين من التفكير، وبالتالي نوعين من طرق التعاطي مع الأمور، ونوعين من النتائج والمقولات.
في الواقع، الأمور أعقد من الصور التي نحاول أن نرسمها هنا بالتأكيد، لكن الهدف هو رفع معدلات التمييز بين أنماط التفكير والتعاطي والأطروحات، استعدادا للتواصل معها، ونقدها بشكل أكثر وعيا.
وصف "القادح" متداول في السعودية، لكنني غير متأكد من وضوحه لغير السعوديين.
القادح، هو الشخص الذي يأخذ قراره من رأسه. هو يقدح شرارة الرأي والقرار باستقلال. غالبا ما يستخدم هذا الوصف للأغراض التالية:1- وصف الشخص بأنه صاحب قرار بشكل سريع وأحيانا مفاجئ. 2- أن هذا الشخص مستقل في قراره.
القدح كما سنرى في هذا المقال سيعطي معنى خاصا لعمليات اتخاذ القرار والاستقلالية. سيكون مقالنا محاولة لوصف وتحليل العقل القادح حين يفكر في الواقع، ومقارنته بالعقل الباحث.
لن يكون التفكير هنا على التفكير القادح حين يفكر الإنسان في نفسه أو حين يتخذ قرارات تخصه. المهم هنا هو حين ينتقل العقل القادح للتفكير في قضايا عامة كالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بمعنى آخر، التفكير في القضايا العامة بمنطق القدح. التفكير القادح سينقل معه خصائص الاستقلال واتخاذ القرار. هذا سيترجم إلى التالي حين يتعرّض العقل القادح للقضايا العامة: ١- يجب أن يتخذ القادح قرارا "حاسما" في القضايا العامة.
٢- أن قراراته هذه يجب أن تعكس استقلاله.
العقل القادح يعتقد أنه مطالب باتخاذ قرارات حاسمة في القضايا العامة التي تواجهه وإلا سيشعر بأن خاصية القدح عنده قد انخفضت.
كذلك القادح يشعر بأن قراره هذا يجب أن يعكس استقلاله الكامل غير المشوب بالتعاون أو المشاركة أو استشارة الآخرين.
على سبيل المثال، حين يواجه القادح قضية الأراضي البيضاء ومشكلات الإسكان في السعودية، يعتقد أن الحفاظ على "قدحيته" أن يتخذ رأيا سريعا في هذه القضية.
سرعة وحدة الرأي مهمة لتأكيد القدحية. في الأخير "القدح" عمل سريع ولحظي وينتج نارا حارقة. رأي القادح في قضية الإسكان والأراضي لن يكون له علاقة ضرورية بإشكالات وتفاصيل القضية.
كل هذا ثانوي مقارنة بشكل الرأي السريع والحاسم. كذلك التفكير القادح يتحسس كثيرا من الآراء المشتركة والأعمال التعاونية. القدح يتطلب شخصية القائد الأوحد الذي لا يحتاج أحدا لاتخاذ القرار.
القادح قلق جدا من التشكيك في طهارته من مشاركة الآخرين، لذا يبدو حادا جدا ضد من يشير إلى تشابهه مع الآخرين.
النموذج المثالي للقادح هو الشاعر المرتجل. الشاعر يحتاج فقط إلى الجلوس مع نفسه لانطلاق الإبداع. الارتجال هنا علامة جوهرية على سرعة القدح وطهارته من تأثير الآخرين.
في المقابل، العقل الباحث يتحرك وفق قيم أخرى مختلفة. بالنسبة للباحث العلمي الموقف من القضايا والأسئلة محكوم بمعايير تقف في وجه الآراء المباشرة والسريعة. القدح باعتباره آخر عيب علمي. الباحث العلمي لا يستعجل في اتخاذ مواقف قبل أن يجري سلسلة طويلة من الخطوات المنهجية.
أيضا فكرة الاستقلالية غير مهمة في البحث العلمي. القيمة المهمة المقابلة هي الموضوعية. الموضوعية تعني أن المواقف والقرارات والنتائج التي يصل إليها الباحث خاضعة لمعايير خارجية يستطيع الآخرون معرفتها، ومحاسبة بحثه بناء عليها.
البحث العلمي كذلك بحث تعاوني قائم على الشراكة مع عدد كبير من الباحثين السابقين. الباحث العلمي يتحرك منهجيا ضد سيطرة أناه على البحث. ذات الباحث هنا ليست الموضوع الأساسي. في المقابل إظهار الذات أو الدفاع عنها هو المنطق الداخلي المحرك للقدح. من خلال عملية مطولة من كشف المعلومات والمنطق البحثي ونتائج البحث، فإن الباحث يطرح هذا الإعلان المهم "النتائج التي وصلت لها ليست منتجا خاصا بي بل منتج سيصل إليه كل من استعمل ذات المعلومات والمنطق". في المقابل القادح يقول "النتائج والقرارات التي تنتج عني خاضعة تماما لخصوصيتي".
ينتج عن هذا التفريق نتائج مهمة، منها أن الباحث متواضع بطبيعة عمله بينما تسيطر ذاتية القادح على حضوره مع الآخرين.
نتيجة ذلك نجد الحوار مع الباحث أسهل بكثير من الحوار مع القادح. الباحث عنده استعداد للتفريق بين ذاته وبين أفكاره، لذا الاختلاف معه لا يتحول في ذهنه إلى هجوم على شخصه. في المقابل القادح يربط بشكل جوهري بين ذاته وبين أفكاره، لذا فكل اختلاف مع أفكاره هو تهديد لذاته. القادح يشعر بالتهديد الشخصي حين يتم تحليل أفكاره أو نقدها. يشعر بأن عبقريته تفقد فرادتها وسحرها حين تكشف صفحاتها عيون النقاد. القادح يرحب فقط بتبجيل عبقريته وسرّه الكامن. البحث العلمي في المقابل ضد الأسرار والقدرات الخارقة والعبقريات المزعومة.
القادح بهذا التعاطي مع العالم لا يعطي معرفة عن العالم بقدر ما يعطي معرفة عن ذاته. البحث المعرفي في المقابل بحث في المشترك، لذا فهو متجه إلى خدمة الآخر ومساعدته على رؤية الواقع بصورة أوضح.
قد لا يفلح الباحث في تحقيق أهدافه ولكن هذا هو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه. في البيئات العنيفة، يتجه الناس إلى القدح كشكل من أشكال الدفاع عن ذواتهم. القادح يريد أن يقول "أنا هنا" في بيئة تمارس العنف على هويته. كل يوم يسمع القادح هذا الصوت "أنت لا شيء" ليرد بهذا الصوت "أنا كل شيء".
في المقابل، البحث لا يتحقق إلا في بيئات آمنة لا يشعر فيها الفرد بالخطر على وجوده. الباحث يسمع هذا الصوت "ذاتك لها كل الاحترام والتقدير ولن تتأثر بنتائج بحثك"، ليرد بهذا الصوت "هذا بحثي وسأكون ممنونا لمن يكتشف عيوبه".
هنا، نفهم لماذا حرية البحث واستقلال المؤسسات البحثية والأكاديمية جوهري للبحث العلمي، وأن انتشار القدح علامة على العنف.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/03/23