"البلدوزر" الروسي يبدأ اجتياحه للمنطقة عبر البوابة السورية
نستغرب هذه الضجة التي تثار حاليا بسبب إرسال موسكو طائرات لقتال قوات “الدولة الإسلامية” في سورية، وكأنها الطائرات الحربية الوحيدة التي تحلق في الأجواء السورية، وكأنه “حلال” على الطائرات الأمريكية والفرنسية والبريطانية والسعودية والأماراتية وحرام على الروسية.
من الذي يحدد “الحرام” و”الحلال” في هذه الحالة؟ هل هي الولايات المتحدة، أم الأمم المتحدة، أم النظام السوري، أم الجامعة العربية؟
التحالف الستيني الأمريكي عندما أرسل طائراته لقصف جهاديي “الدولة الإسلامية” وتجمعاتهم في سورية والعراق، لم يفعل ذلك وفقا لقرار من مجلس الأمن الدولي، ولا تلبية لطلب من السلطات السورية، أو حتى التنسيق معها.
عام كامل، والطائرات الأمريكية من كل الأنواع تقصف هذه المواقع والتجمعات، ولم تنجح مطلقا في تحقيق أهدافها رغم أكثر من ستة آلاف طلعة جوية ألقت خلالها آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ، الأكثر فتكا من “البراميل”، وقتلت العشرات أو المئات من الأبرياء، ولكنها ما زالت تراوح مكانها.
***
خمسة أعوام والساحة السورية أرضا مشاعا ومفتوحة على مصراعيها للإدارة الأمريكية، وكل حلفائها الأوروبيين والعرب، ومقاتليهم، لانجاز مهمتهم في إسقاط النظام السوري، ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا.
جربوا كل شيء.. المعارضة “المعتدلة”.. وجيوشها، المعارضة الإسلامية المتشددة.. ومجاهديها، أقاموا معسكرات للتدريب اشرف عليها خبراء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في تركيا والأردن وقطر والسعودية، ففوجئوا أنهم يدربون مقاتلين، أما يهربون من أول رصاصة، أو يستسلمون في أول معركة، أو ينضمون بمعداتهم الخفيفة والثقيلة إلى الطرف الآخر، الذي من المفترض أن يقاتلونه ويقضون عليه.
الروس كانوا موجودين في سورية في إطار معاهدة دفاع مشترك، وأقاموا قاعدة بحرية في طرطوس في وضح النهار منذ عشرات السنين، تماما مثل القواعد الأمريكية في قطر والسعودية والعراق والبحرين، فأين وجه الغرابة؟ وهل القواعد الأمريكية شرعية والروسية غير شرعية؟
لوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي وصف الروس أمس بأنهم يتكلمون كثيرا ولا يفعلون شيئا لمحاربة جهاديي “الدولة الإسلامية”، داعيا موسكو إلى قرن كلامها بالأفعال، وها هي تستجيب له وترسل أربع طائرات من طراز “سوخوي 34″ المتطورة وتشن ثلاث غارات على مواقع للدولة قرب مدينة حمص، وأكد مسؤول عسكري أمريكي حدوث مثل هذه الغارات.
التطور الجديد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد تعزيز التواجد العسكري والسياسي لبلاده في الشرق الأوسط، وأن لا يترك المنطقة “أرضا بور” لأمريكا وحلفائها، يعبثون بها، ويغيرون أنظمة مثلما أرادوا، ولسان حاله يقول “لن نسمح لكم بتكرار تدخلاتكم العسكرية في العراق وليبيا على حساب مصالحنا وأصدقائنا، الزمن تغير ونحن هنا”.
التدخل الروسي في سورية في صورته المتطورة الحالية، جاء بعد إعطاء مجلس الاتحاد الروسي يوم أمس تفويضا “روتينيا” للرئيس بوتين باستخدام القوة العسكرية في الخارج، وصدر القرار بالإجماع، وبعد أن تقدم الرئيس بشار الأسد بطلب صريح وواضح في هذا الصدد إلى الرئيس الروسي.
دخول روسيا إلى حلبة صراع النفوذ في سورية ومنطقة الشرق الأوسط برمتها، ربما يكون أفضل حظا من نظيره الأمريكي، لأن الطائرات الروسية التي بدأت غاراتها تملك قوات حليفة على الأرض ممثلة بالجيش السوري، وقوات إيرانية (مستشارين)، وأخرى تابعة لـ”حزب الله”، بينما لا تملك القوات الأمريكية ومحورها الشيء نفسه، لان تركيا والمملكة العربية السعودية والأردن وقطر رفضت إرسال قوات برية للقتال إلى جانب “الجيش السوري الحر”، ومشاريع تدريب “صحوات” سورية على غرار نظيراتها العراقية عام 2007 تحولت إلى “أضحوكة” وموضع سخرية الأمريكيين قبل أعدائهم.
لا يمكن الحديث عن “سيادة” سورية، في ظل وجود كل هذه الطائرات الغربية والشرقية، التي تحوم في أجوائها ليل نهار، ومن يقول غير ذلك يغالط نفسه قبل ان يخدع الآخرين، بل إلا نبالغ إذا قلنا أن الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية لا تملك أي نوع من السيادة على أرضها، ومن يدعي امتلاكها فانه لن يمر وقت طويل دون أن يفقدها.
الموقف الأمريكي إزاء هذا الاجتياح للمنطقة من قبل “البلدوزر” الروسي ما زال يتسم بالغموض والارتباك، وينعكس كل هذا على تصرفات حلفائهم ومواقفهم، فتارة يتحدث الفرنسيون على لسان فابيوس بأنهم يؤيدون بقاء الأسد، وتارة أخرى يطالبون برحيله فورا لأنه جزء من المشكلة، حتى أوباما نفسه ظهر طوال اليومين الماضيين الأكثر “ارتجاجا” في مواقفه، ونتحدى أن يعطينا أي محلل أو مراقب تلخيصا، أو صورة واضحة، عن ما أراد قوله في خطابه الذي ألقاه في الأمم المتحدة يوم أمس الأول، خاصة حول الموقف من سورية، أو رئيسها الأسد.
ولعل الصورة الأكثر وضوحا لهذا الارتباك هو التصريح الذي أدلى به السيد عادل الجبير وزير خارجية السعودية على هامش اجتماعات الجمعية العامة أمس عندما كرر اقواله السابقة بأن أمام الرئيس الأسد خيارين، أما أن يرحل من خلال عملية سياسية أو يواجه خيارا عسكريا يجبره على الرحيل.
قبل التدخل الروسي الكاسح في سورية، ربما ينطوي هذا الكلام على بعض المصداقية، لكنه بعد هذا التدخل الممهور بموافقة وتنسيق أمريكيين، وعنوانه الرئيسي هو تثبيت الرئيس الأسد فوق قمة نظامه، فانه يمكن تفسيره على أنه واحد من أمرين: الأول أن كلام السيد الجبير ينطوي على قراءة غير دقيقة للتطورات السياسية في المنطقة (ولا نريد استخدام كلمة أخرى)، أو أنه نوع من “المكابرة”، ونرجح الأمر الثاني.
***
لو تكلل التدخل العسكري السعودي في اليمن بالنجاح بعد ستة أشهر من بدئه، لقلنا أن كلام السيد الجبير يستند إلى “سابقة” عسكرية مفصلية يجب أخذها بعين الاعتبار، لأنها يمكن أن يتم نقلها إلى سورية، تماما مثلما كان يردد الكثير من المسؤولين والمحليين السعوديين في بداية “عاصفة الحزم”، ولكن هذا التدخل ما زال يواجه صعوبات عديدة، ويمكن أن تتفاقم في المستقبل المنظور على الأقل.
العودة الروسية، وبهذه القوة إلى المنطقة، وعبر البوابة السورية، وتحت ذريعة محاربة “الدولة الإسلامية” ستغير المشهد السوري، بل والمشهد “الشرق أوسطي”، رأسا على عقب، ولا نعتقد أن أمريكا ستقبل وجود منافس لها، وكذلك بالإذعان والخنوع ورفع الرايات البيضاء، وهذا لا يعني ان هذه العودة الروسية غير محفوفة بالأخطار.
التعايش بين “الدب” الروسي و”الحمار” الديمقراطي الأمريكي لم يدوم طويلا، مثلما لم يطل مثل نظيره بعد الانتهاء من الخطر النازي بعد القضاء على الأخير في الحرب العالمية الثانية، ولا نتردد بالقول أن متغيرات كثيرة زاحفة إلى المنطقة والأيام بيننا!
*رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2015/10/01