التحالف “الحوثي الصالحي” يعزز صفوفه استعدادا لحرب طويلة..
عبد الباري عطوان ..
ظلت دول التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية تراهن طوال الأشهر الماضية، ومنذ انطلاق “عاصفة الحزم” قبل عام ونصف العام تقريبا، على حدوث انقسام بين المكون السياسي والعسكري الذي يشكل الطرف الثاني في معادلة الحرب، أي التحالف “الحوثي الصالحي”، وجاء إعلان “الاتفاق” يوم أمس بتشكيل مجلس سياسي أعلى لإدارة اليمن “مجلس رئاسي”، مكون من عشرة أعضاء مناصفة، ورئاسة دورية، ليظهر فشل هذا الرهان، بل وسذاجته، وتأكيد جديد بأن السعوديين وحلفاءهم لا يعرفون اليمن، ولا يعرفون خصومهم جيدا، ولو كانوا غير ذلك لما وقعوا في هذه الحفرة من الأساس حتى لا يفكرون في كيفية الخروج منها.
هذا “الاتفاق” هو بمثابة تعزيز الجبهة الداخلية اليمنية وتوحيدها، وفي الشمال خاصة، استعدادا لحرب استنزاف طويلة ضد المملكة العربية السعودية وحلفائها، ونتيجة للتوصل إلى قناعة راسخة بان هذا التحالف يعيش الآن قمة ضعفه، وانهيار إستراتيجيته، وتحالفاته الإقليمية والدولية، ابتداء من سورية، حيث باتت الغلبة لخصومه، وخاصة في حلب، واتهامات صريحة له بالتورط في انقلاب تركيا الفاشل، مما يعني ضمنيا خسارة الحليف التركي الذي بدأ يعيد حساباته، ويقترب أكثر من موسكو بالتالي، وانتهاء بإيران التي خرجت قوة إقليمية عظمى بعد توقيعها اتفاقها النووي مع أمريكا، ودقة حساباتها في العراق وسورية ولبنان ومنظمة أوبك.
***
التحالف “الحوثي الصالحي” لم يذهب إلى الكويت، وقبلها مسقط، للتفاوض من أجل التوصل إلى حل سياسي، لا يلبي طموحاته ويفرض عليه، وإنما للرهان على عامل الوقت، وامتصاص صدمة “العاصفة” العسكرية السعودية، وتوريط الرياض في حرب استنزاف تؤلب الشعب اليمني وتوحده ضدها، وتخرج منها، أي الحرب، متهمة بالإرهاب وهذه الإستراتيجية التي كشفت عن الدهاء والحكمة اليمنيين في ذروتهما حققت نجاحا كبيرا، حتى الآن على الأقل.
السعوديون اعتقدوا أنهم يستطيعون إبعاد الحوثيين عن حليفهم علي عبد الله صالح، ودولته العميقة في اليمن، التي ما زال يمسك بكل، أو معظم مفاتيحها، ولذلك وجهوا لهم الدعوة، بمعزل عنه، إلى جولات مفاوضات في الرياض تحت عنوان أساسي، وهو الاتفاق على وقف إطلاق النار على الحدود بين البلدين كخطوة أولى، وتجاوب الحوثيون مع هذه الدعوة، وهم يدركون جيدا النوايا الحقيقة من خلفها، وانطلاقا من إستراتيجتهم في كسب الوقت، وهذا ما يفسر الانهيارات المحسوبة لكل تفاهمات وقف إطلاق النار بين الحين والآخر، وإطلاق الصواريخ الباليسيتة على المدن السعودية الجنوبية، فالحوثيون لا يريدون تأمين مناطقهم في صعدة وعمران، فهذه المدن تدمرت بالكامل، ولكنهم يصوبون أعينهم بإتجاه جيزان ونجران، وحتى أبها التي يعتبرونها مدنا يمنية، وإلغاء اتفاقية الطائف التي ضمتها إلى السعودية، أو المساومة عليها.
مفاوضات الكويت انهارت لأنه لم يكن مكتوبا لها أن تنجح منذ البداية، لأنها كانت مفاوضات غير متكافئة بين طرف يملك الأرض، وآخر يملك “شرعية” ورقية، أي الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته المقيمة في الرياض، وبين الطرف الأقوى على الأرض هو الطرف الذي أملى شروطه في نهاية المطاف، مثلما أطلق رصاصة الرحمة على مفاوضات كانت في النزاع الأخير، على أي حال وترقد في غرفو العناية المركزة.
القيادة السعودية كانت تتصرف دائما بعقلية القوة الإقليمية العظمى، وتنظر إلى اليمن من عليائها، وتعتقد أنها تستطيع بقوتها المالية، وطائراتها الحديثة، فرض شروطها على الأرض وأصحابها، ولكنها فشلت في الحالين، ففي الأولى، أي المفاوضات، أصرت على توقيع الاتفاق الذي تريد في الرياض، أو مكة، بعد التوصل إليه في الكويت، لتكريس عظمتها وانتدابها لليمن، وجاء الرد بالاتفاق “الحوثي الصالحي” الذي نسف المفاوضات برمتها وثبت بالدليل العملي، أن طائرات “اف 16″ لا يمكن أن تركع اليمنيين الخصوم، مثلما فشلت في تركيع جنوب لبنان وغزة، فما زالت تعز على حالها، والعاصمة صنعاء تدار من القصر الرئاسي الحوثي، ومن يجادل عليه الاتصال هاتفيا ليتأكد بنفسه.
ما لم يدركه السعوديون أن المشكلة لم تكن أبدا في الشمال اليمني وإنما في الجنوب، الذي جرى “قذفه” في وجوههم بكل مشاكله وقنابله الموقوتة، وانهياره الأمني، فالشمال متماسك وموحد، ومسيطر عليه في معظمه من قبل الحوثيين والصالحيين، وأنصار “الشرعية” فيه قليلون، وأن وجدوا، فغير فاعلين، ويمكن تغيير ولاءاتهم بسهولة، وحسب المغريات والامتيازات.
غريب أمر السيد أحمد عبيد بن دغر، رئيس الوزراء اليمني في حكومة “الشرعية”، عندما يصف الاتفاق “الحوثي الصالحي” الأخير بأنه انقلاب على الشرعية، وخطف للدولة، فإذا كان كذلك، لماذا اندلعت الحرب وبدأت طائرات “عاصفة الحزم” قصف صواريخها وحمم قنابلها قبل عام ونصف العام؟ ولم يتم استخدام هذا التوصيف نفسه طوال تلك الفترة؟ ونجد له العذر حتما، فماذا يمكن أن يقول غير ذلك؟
السؤال المطروح حاليا هو عما إذا كان هذا “الاتفاق السياسي”، غير المفاجيء بالنسبة إلينا على الأقل، “تكتيكيا” أم “استراتيجيا”؟ مؤقتا أم دائما؟ ورقة ضغط أم مشروع إعادة ترتيب أمور الدولة؟
من الصعب علينا إعطاء إجابة جازمة، ولكننا نرجح أنه اتفاق استراتيجي يثبّت أوضاعا قائمة على الأرض، ويفرض عليها شرعية “الصمود” وهي الأهم، في مواجهة عدو استراتيجي مشترك، والاستمرار في الوقت نفسه في سياسة المساومة وكسب الوقت و”ابتزاز″ التحالف عسكريا وماليا، انتظارا للمفاوضات الحقيقة المقبلة حول التعويضات المالية، للدمار وأهالي ضحايا الحرب، وتحديد الحدود الدائمة.
خيارات التحالف السعودي بعد هذا الاتفاق محصورة في ثلاثة:
الأول: الرد بالمزيد من القصف الجوي ومحاولة السيطرة على العاصمة صنعاء، وحسم الوضع الميداني عسكريا في تعز ومآرب ومدن أخرى، مما يعني الرد الانتقامي المقابل بتصعيد الحرب الحدودية، والمزيد من القصف لجيزان ونجران وخميس مشيط وأبها، وربما توغلات عسكرية، خاصة بعد وصول أمدادات عسكرية مهمة.
الثاني: العودة إلى المفاوضات مجددا، ولكن في مسقط هذه المرة، وليس الكويت، وتقديم تنازلات جديدة تغري التحالف “الحوثي الصالحي”، وتعترف بطريقة أو بأخرى بالترتيب الجديد للسلطة.
الثالث: التركيز على الجنوب، وتكريس الانفصال عمليا، استعدادا لخوض حرب بالنيابة بين الشمال والجنوب مستقبلا.
***
مشكلة التحالف السعودي في الجنوب ستكون هي الأخطر في رأينا، لأن هذا الجنوب يشكل حاليا حقل ألغام ستنفجر تباعا لكل من يقترب منه، وهناك ظاهرة لافتة فيه وهي قيام “المدينة الدولة” المستقلة، وعدم وجود أي ترابط فيما بينها، علاوة على اتساع نفوذ تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”.
في الجنوب هناك “دولة عدن”، و”دولة ابين”، و”دولة الضالع″، و”دولة حضرموت”، و”دولة لحج”، ومحاولات دمج “دولة تعز″ بـ”دولة عدن” فشلت، فالعداء بين الطرفين أكثر من نظيره بين الشمال والجنوب، و”العامل الطائفي السني” الذي يراهن عليه التحالف السعودي لم يعد “الاسمنت” الصالح لتوحيد هذا الجنوب في مواجهة “الشمال الزيدي”، أي أن الورقة الطائفية باتت ذات تأثير محدود.
قبل إعلان دولة الجنوب الاشتراكية عام 1967، كانت هناك 24 سلطنة ومحمية خاضعة للاحتلال البريطاني، ومن قاد الاستقلال، جبهة قومية وحدوية ناصرية، ومن سوء حظ التحالف السعودي أنه ليس ناصريا ولا اشتراكيا ولا وحدويا، ويملك سلاح المال والغطرسة فقط، ولا يحظى بدعم غالبية اليمنيين.
الشمال تخلص من عبء الجنوب ولو مؤقتا، وألقى به على عاتق التحالف السعودي، وبات يركز على الجنوب السعودي، هنا تكمن المعادلة الجديدة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، أنه الدهاء اليمني الذي تعود جذوره لآلاف السنين، والجينات الإمبراطورية التي تجري في عروقه.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2016/07/30