يوم دافع عرفات عن السيد خامنئي وأخرس أحد المتطاولين من وزرائه.. وليت حركة “فتح” حافظت على ارثه
عبد الباري عطوان ..
تبدأ الرواية عام 1998 عندما هاجم السيد علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في حينها اتفاقات أوسلو بشدة، واعتبرها تفريط وخيانة، مثلما هاجم أيضا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي أشرف على توقيعها، أو بالأحرى كان يقف خلف طاولة التوقيع في حديقة البيت الأبيض، إلى جانب أسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، وبيل كلينتون الرئيس الأمريكي، عندما جرى توقيع الاتفاق من قبل كل من السيد محمود عباس (أبو مازن) مهندس الاتفاق، وشمعون بيريس وزير الخارجية الإسرائيلي في حينها.
المشهد الرئيسي للواقعة كان في مكتب الرئيس عرفات، في أحد الليالي، حيث انبرت مجموعة من المسؤولين في الانتصار إلى رئيسهم، نت قبيل الحمية وغالبا النفاق، في مواجهة السيد خامنئي الذي تطاول عليه واتفاقات أوسلو، بطريقة لم ترق لهم وللزعيم أيضا.
أحدهم، وهو الآن من أكثر المقربين إلى الرئيس عباس، أراد أن “يزاود” على المرشد الإيراني، ويتطرف في الهجوم عليه، إلى حد أنه في غمرة حماسه وصفه بـ “الأكتع″، إلى جانب أوصاف اخرى، ليس من اللياقة سردها هنا.
الرئيس عرفات ينتفض بشدة، ويصرخ بغضب والشرر يتطاير من عينيه الجاحظتين، ويطالب ذلك المسؤول بأعلى صوته بأن “يخرس″، ويقول له إن هذا “الأكتع″ يمثل ثورة عظيمة طردت السفير الإسرائيلي من طهران، وسلمت سفارته إلى ثوار فلسطين، وأصدر قرارا بمنع أي أحد في الإعلام الفلسطيني بالرد على ما ورد على لسان السيد خامنئي.
***
تذكرت هذه الرواية، التي رواها لي الصديق فريح أبو مدين، الذي كان حاضرا في المجلس، وكان يتولى منصب وزير الداخلية والعدل في السلطة الوطنية الفلسطينية، أقول تذكرتها وأنا أتابع الأزمة المتفاقمة بين الرئيس محمود عباس والحكومة الإيرانية على أرضية اللقاء الذي تم قبل أربعة أيام بينه، أي الرئيس عباس، والسيدة مريم رجوي زعيمة المعارضة الإيرانية، الممثلة في حركة “مجاهدي خلق”.
السيد حسين شيخ الإسلام، مستشار وزير الخارجية الإيراني أثار غضب الرئيس عباس والمجموعة المحيطة به، عندما رد على هذا اللقاء باتهامه (الرئيس عباس) بالعمالة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي اي ايه)، مؤكدا “أن وثائق السفارة الأمريكية في طهران أثبتت ذلك، وأن تصرفاته على مدى العقود اللاحقة أثبتت ذلك”، وذلك دون أن يقدم أي وثيقة رسمية من تلك التي نحدث عنها.
حركة “فتح” ردت ببيان ناري على المستشار الإيراني يتماهى مع مواقف وبيانات مماثلة ضد خصوم الرئيس عباس من الفلسطينيين والعرب، قالت فيه إن كلامه، أي المستشار، “جاء انعكاسا لمفاهيم الخيانة والباطنية المنظمة لسياسة القائمين بأدوار تخريب وتدمير وشق الصف الفلسطيني، والعاملين على شرذمة الأمة الإسلامية والعربية، والداعمين للانقلاب، والانقسام في وطننا فلسطين وفي كل مكان من البلاد العربية”، في إشارة إلى إيران.
ولعل الفقرة الأبرز اللافتة للنظر في بيان حركة “فتح” تلك التي تقول “هجوم المستشار الإيراني يثبت لنا فظاعة دور القائمين على خدمة المشروع الصهيوني بحملاتهم المنظمة على رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية وعلى القضية الفلسطينية”.
نقول إن هذه الفقرة لافتة للنظر لأنها تصدر دفاعا عن رئيس ينسق أمنيا مع دولة الاحتلال، ويوظف أكثر من أربعين ألف رجل أمن في خدمة هذا التنسيق، وإذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا.
لا نجادل مطلقا في أن ألفاظ السيد شيخ الإسلام وهجومه على الرئيس الفلسطيني كانت تفتقر إلى الدبلوماسية والأعراف المتبعة، وكانت ربما ستكون أكثر حدة وقوة، وتعبيرا وإيلاما، لو أنها ركزت على الانتقاد السياسي، واستخدمت لغة تتسم بالترفع عن بعض الألفاظ والتوصيفات غير المقبولة،وله في السيد حسن نصر الله، زعيم المقاومة اللبنانية قدوة حسنة فلم يهاجم السلطة أو حركة “حماس″ مطلقا، وتعفف عن التعرض لهما رغم اختيارهما الوقوف في الخندق الآخر.
***
نقول هذا الكلام ونحن الذين لم نتردد مطلقا في إدانة لقاء الرئيس عباس بالسيدة رجوي في اليوم نفسه بعبارات قاسية، وخطأنا الرئيس الفلسطيني، وشككنا في خدمة هذا اللقاء للقضية الفلسطينية، وألمحنا إلى أنه قد يكون تم بطلب سعودي في إطار الحرب المستعرة بين إيران والسعودية هذه الأيام إعلاميا وسياسيا وعسكريا (بالنيابة في اليمن وسورية والعراق).
كنا نتمنى في الوقت نفسه لو أن حركة “فتح”، وهي تصدر هذا البيان وعلى الأرجح بتحريض من الرئيس عباس نفسه، أو انتصارا له، تحلت بإرث مؤسسها الراحل ياسر عرفات، وتجنبت اللجوء إلى ألفاظ لا تليق بثورة، من المفترض أنها تمثل شعبا محاصرا ومحتلة أرضه ومقدساته، ويحتاج إلى علاقات جيدة مع كل أشقائه العرب والمسلمين، أو عدم استعدائهم على الأقل، وخاصة دولة إقليمية عظمى مثل إيران لا تقيم أي علاقات مع الإسرائيليين، ودعمت مقاومتين ضدهم بالمال والسلاح، الأولى في لبنان، والثانية في قطاع غزة.
من يمثل حركة تحرير وقضية مقدسة مثل القضية الفلسطينية يجب أن يتحلى بأعلى درجات ضبط النفس، وكظم الغيظ، واختيار كلماته، وردوده بعناية فائقة، لأن الكلمة مثل الرصاصة، عندما تخرج من المستحيل إرجاعها.
نختم بالقول، رحم الله الشهيد ياسر عرفات، فرغم تحفظاتنا على بعض سياساته ومواقفه، إلا أنه كان قائدا من الوزن الثقيل، ويعرف كيف يدير الأزمات يتحلى بضبط النفس، والعض على النواجذ، خدمة لقضية بلاده وشعبه.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2016/08/03