الكونغرس يتحدى السعودية مجددا ويصادق على قانون ملاحقتها بتهمة التورط في هجمات سبتمبر
عبد الباري عطوان ..
لا نعتقد أن مصادقة مجلس النواب الأمريكي، وبعد أشهر من مصادقة مجلس الشيوخ، على قانون يسمح لضحايا اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر بمقاضاة السعودية، ومطالبتها بتعويضات مالية، جاء بمحض الصدفة، ولأسباب قانونية بحته، خاصة أن هذا التصديق تزامن مع مرور الذكرى الـ15 لهذه الاعتداءات، بل تجيء في إطار مخطط مدروس جرى إعداده منذ سنوات.
هناك أكثر من 740 مليار دولار من الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية ، من بينها 119 مليار دولار على شكل سندات للخزينة الأمريكية، وأن الاستيلاء على هذه المليارات هو الهدف الأساسي لهذا القانون والذين يقفون خلف إصداره، ونحن الآن في مرحلة التمهيد قبل صافرة معركة الاستنزاف الشرسة.
الأمريكيون كانوا “يسايرون” القيادة السعودية طوال السنوات الثمانين الماضية، لأن بلادهم كانت بمثابة “البقرة الحلوب” بالنسبة إليهم، و”حليف” يمكن توظيفه بفاعلية لتمويل الحروب، وتخفيض أسعار النفط داخل منظمة “أوبك”، ومحاربة المد الشيوعي السوفييتي من خلال الإسلام بشقيه المعتدل والمتطرف، الآن انتهت، أو تقلصت، هذه المصلحة الأمريكية إلى حدودها الدنيا، وسقطت “البقرة السعودية”، وبدأ الأمريكان يشحذون سكاكينهم دون رحمة، ويبحثون عن دفاترهم القديمة بحثا عن أعذار وذرائع.
***
البيت الأبيض الأمريكي الذي أحيل إليه القانون رسميا يوم الجمعة الماضي، هدد باستخدام “الفيتو” لإجهاضه، ليس حبا بالسعودية وقيادتها، ورأفة بشعبها، وإنما لأنه يخشى من تأثيره على مبدأ “الحصانة السيادية” التي تحمي الدول من الملاحقات المدنية أو الجنائية، فالدول التي من المسموح ملاحقتها أمريكيا هي تلك المدرجة على لائحة الإرهاب الأمريكية، ومن بينها إيران وسورية.
استخدام البيت الأبيض لحقه في رفض القانون لا يعني دفنه، لأنه، أي القانون، سيعود إلى مجلسي النواب والشيوخ مجددا، حيث يحتاج إلى تصويت ثلثي الأعضاء لإقراره، وسهولة التصديق عليه في المجلسين، وبنسبة تصويت عالية توحي بأن اعتماده بصيغته النهائية مسألة مضمونة.
مجلس النواب الأمريكي لا يكن أي ود للعرب والمسلمين، ويخضع بالكامل للوبيات أعدائهم، ورفض قبل أسابيع المصادقة على صفقة أسلحة ودبابات أمريكية للسعودية قيمتها حوالي مليار وربع المليار دولار، تحت ذريعة الخوف من استخدامها ضد المدنيين في اليمن، وفي إطار حملة التحريض والضغط ضد الحليف السعودي “السابق” الذي لم يعد يملك الخدمات التي يمكن أن يقدمها للولايات المتحدة، بل بات عبئا دفاعيا عليها.
السلطات السعودية ليس لها أي علاقة رسمية بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، وتنظيم “القاعدة” بصيغته “البنلادنية” يكن لها عداءا أكبر بكثير من عدائه للغرب وزعيمته أمريكا، ويعتبرها سلطات “كافرة”، وقال لي زعيم “القاعدة” الشيخ أسامة بن لادن شخصيا عندما التقيته للمرة الأولى في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1996 في كهوف تورا بورا، انه رفض عرضا حمله إليه عمه (زوج أمه)، ومجموعة من شخصيات الحجاز وعلمائها البارزين، يتضمن رفع التجميد لأرصدته البنكبة العائدة من نصيبه في شركة والده (شركة بن لادن للمقاولات)، وكان مقدارها 250 مليون دولار، ومضاعفتها، مقابل أن يعود إلى المملكة، ويقول خمس كلمات عند وصوله إلى مطار الرياض وهي “أن المملكة تطبق الشريعة الإسلامية”.
الكونغرس الأمريكي يعرف هذه الحقائق، مثلما يعرف ما هو أكثر منها، ولكنه يمارس “الابتزاز″ و”البلطجة”، في أبشع صورهما وأشكالهما ضد المملكة، وضد العرب والمسلمين، ويقف في معظم الأحيان في الخندق المعادي لهم.
الصحف الأمريكية ظلت طوال الأعوام الماضية تتحدث عن 28 صفحة جرى طمسها من التقرير الصادر عن تحقيقات لجنة الكونغرس في هجمات سبتمبر، وتؤكد تورط الأسرة الحاكمة السعودية فيها، هذه الصفحات وبعد نشرها خلت من كل هذه الادعاءات، وها هو “الكونغرس″ يرد بالتصديق على قانون الملاحقات المذكور.
القيادة السعودية وقفت دائما ضد كل تحرك عربي حقيقي لمواجهة الخطرين الصهيوني والأمريكي، وجندت المجاهدين العرب والمسلمين لإلحاق هزيمة بالاتحاد السوفييتي، صديق العرب في أفغانستان، واستقدمت نصف مليون جندي أمريكي لتدمير العراق وأسلحته تحت ذريعة تحرير الكويت، وأيدت فرض حصار تجويعي أدى إلى مقتل مليون من أطفاله على مدى 13 عاما.
المكافأة الأمريكية لكل هذه الخدمات تأتي على شكل قوانين لملاحقتها بتهمة دعم الإرهاب والإرهابيين تماما مثل تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” وإيران وسورية، التي تحاربهما حاليا بشراسة، يا لها من نهاية.. يا لها من مأساة.
***
أمريكا هي أكبر دولة تمارس الإرهاب في العالم، وإذا كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية قتلت ثلاثة آلاف أمريكي، وهي هجمات مدانة، فإن أمريكا قتلت الملايين في العراق وسورية واليمن وأفغانستان وليبيا بشكل مباشر، أو غير مباشر، وهي التي هيأت الحاضنة الأكثر دفئا لنمو الجماعات الإسلامية المتشددة مثل “الدولة الإسلامية”، التي تدعي أنها الخطر الأكبر على السلم والاستقرار العالميين.
القيادة السعودية تحالفت مع أمريكا ضد معظم أعدائها، أن لم يكن كلهم، سعيا من أجل حمايتها ودعمها، وهي تدفع، الثمن غاليا من أموالها، التي هي حق لشعبها، وتواجه وشعبها خطر الإفلاس لأنها استمعت للنصائح الأمريكية، بتخفيض أسعار النفط لإلحاق الأذى والشلل بالإقتصادين الإيراني والروسي، ودخول حرب في اليمن وسورية وليبيا، وبما يخدم المصالح الأمريكية بشكل أساسي.
اليوم الاستثمارات السعودية، وغدا الكويتية، وبعد غد القطرية، والإماراتية، والذرائع والوثائق جاهزة ومحفوظة في الإدراج، وسيتم إخراجها في الوقت الملائم، ودعم الإرهاب أحداها.
نشعر بالمرارة في الحلق، مثلما نشعر بالقهر والألم.. لأننا كنا، والكثيرون غيرنا، نتوقع هذه النهاية، ونعارض كل حروب أمريكا، ونحذر من الثقة فيها، والتحالف معها، ونالنا ما نالنا، وهذا قدرنا وأمثالنا، وما أكثرهم في هذه الأمة.
هل سيستوعب القادة السعوديون هذا الدرس وتداعياته، ومعهم حلفاؤهم في الخليج، وبعض المملكات العربية، ويبدأون في المراجعات المعمقة، والتغيير حسب نتائجها؟
لدنيا الكثير من الشكوك هذا إذا لم يكن الوقت متأخرا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2016/09/12