خلاف “كروي” بواجهة “سياسية” بين السعوديين والفلسطينيين..
المشكلة الكروية المتفاقمة بين المملكة العربية السعودية واتحادها الكروي، والسلطة الفلسطينية، ممثلة بالجنرال جبريل الرجوب، رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني تعكس مدى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية لدى الطرفين وتخفيها خلف أعذار واهية.
بداية نؤكد هنا أننا كنا، وما زلنا، وسنظل، ضد أشكال التطبيع كافة بين الدول العربية والإسلامية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، رسميا كان هذا التطبيع أو شعبيا، وعارضنا موقف السلطة الفلسطينية الذي يناشد العرب والمسلمين زيارة القدس المحتلة، والصلاة في المسجد الأقصى، لأننا نرى في ذلك تطبيعا يخدم السلطات الإسرائيلية، ويحسن صورتها البشعة العنصرية في العالم بأسره، لأن هذه السلطات لو شعرت للحظة أن تدفق المسلمين إلى الأراضي المحتلة يشكل خطرا عليها، أو يصب في غير مصلحتها، لأغلقت الباب، ورمت بمفتاحه في قلب البحر الميت.
إن نعارض التطبيع لا يعني أننا نقف في الخندق السعودي في هذه الأزمة، فالمسؤولون السعوديون عندما يرفضون إقامة مباراة الإياب في تصفيات كأس العالم الآسيوي في استاد المرحوم فيصل الحسيني في القدس المحتلة، لا يعارضون التطبيع مع دولة الاحتلال كليا، مثلما يقولون، وإلا لما شهدنا الجنرال الدكتور أنور العشقي، أحد أبرز المستشارين في الدولة، يزور القدس المحتلة أكثر من مرة، على رأس وفد كبير، ويلتقي مسؤولين إسرائيليين سيرا على خطى الأمير تركي الفيصل، ولما شهدنا أيضا مندوبين عن صحف إسرائيلية يزورن الرياض ويلتقون بمسؤولين سعوديين، ويجلسون خلف لافته تحمل اسم صحفهم في مقرات المراكز الصحافية السعودية.
الجنرال الرجوب لا يعتبر إقامة مباراة في القدس المحتلة تطبيعا بدوره، ويضرب مثلا بقيام فريق دولة الإمارات باللعب فيها، ودون أن يتوقف أمام حاجز إسرائيلي، أو يتعرض جواز سفر أي من اللاعبين للختم بنجمة داوود، وهذا صحيح، ولكن كل ترتيبات الدخول والأمن تتم بموافقة الحكومة الإسرائيلية ودعمها، ومن يقول غير ذلك يغالط نفسه، قبل أن يخدع الآخرين، واسألوا شباب الانتفاضة وثورتهم المباركة في وجه الاحتلال والسلطة معا.
لا نريد الخوض في هذا الجدل العقيم، وإيراد الحجج والأخرى المضادة لها، “فالجنازة حارة والميت كلب” مثلما يقول المثل الشعبي، والمسألة كلها محصورة في مباراة كرة قدم، وثلاث نقاط، ولا تستحق كل هذا الخلاف الذي ينعكس سلبا على قضية عربية مصيرية، ويحرف الأنظار عن انتفاضة مشرفة ضد الاحتلال والانتهاكات الاستفزازية الإسرائيلية للحرم القدسي الشريف، وأعداد الشهداء المتصاعد.
المملكة العربية السعودية سباقة في تقديم المبادرات، ليس الكروية فقط، وإنما السياسية أيضا، وهي صاحبة الطبعة الأصلية من مبادرة السلام العربية التي عرضت التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الكامل قبل 13 عاما، وقوبلت بالرفض الإسرائيلي المهين، ومع ذلك تواصلت الاجتماعات واللقاءات “غير الرسمية” السعودية والإسرائيلية، فلماذا لا تبادر السلطات السعودية الكروية بحل وسط ينهي هذه المشكلة من أساسها، وهي التي كانت الوسيط في نزاعات عربية سياسية أكبر؟
بمعنى آخر، لماذا لا تقبل السلطات السعودية بإقامة هذه المباراة على أرض قطاع غزة، حيث لا سلطة للإسرائيليين، ولا حواجز لهم، ومن المؤكد أن مليونين من أبناء قطاع غزة المحاصرين المجوعين سيستقبلون أعضاء المنتخب الكروي السعودي كأخوة وضيوف أعزاء وأبطال، كسروا الحصار، وسيقدرون لهم حضورهم هذا إلى سجنهم الكبير، ولا نبالغ إذا قلنا أنهم سيشجعونهم أكثر من الفريق الفلسطيني نفسه، فهؤلاء هم رجال الانتفاضة الذين تصدوا ببطولة لعدوانين إسرائيليين وانتصروا عليهما، وقدموا آلاف الشهداء دفاعا عن كرامة العرب والمسلمين جميعا.
وإذا كان السعوديون لا يقبلون بحل الوسط هذا، وهو أكثر الحلول لصالحهم، كرويا ووطنيا، فليذهبوا إلى عاصمة وسط، ولتكن عمان أو الجزائر أو تونس أو المغرب، ونحن على يقين بأن شعوب هذه العواصم سيكونون أكثر استماتة في تشجييع المنتخب الفلسطيني من الفلسطينيين أنفسهم، لأن معظم مشجعي هذه الدول لا يكنون الكثير من الود للمملكة العربية السعودية، بسبب حربها في كل من اليمن وسورية، وستكون المخاطر الأمنية أكبر من نظيرتها في قطاع غزة.
نشعر بالمرارة والأسف لوجود هذه الأزمة في الأساس، وبين طرفين من المفترض أنهما شقيقين، ونحن على يقين بأن وصول الفريق السعودي إلى التصفيات النهائية لكأس العالم سيكون موضع ترحيب واحتفال الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني، وأنا أولهم، مثلما هي عادتهم مع كل الفرق العربية المتأهلة، والشيء نفسه يقال أيضا عن الشعب السعودي الشقيق، في حال تأهل الفريق الفلسطيني، وهو أمل ضئيل على أي حال.هذه أزمة مفتعلة ومخجلة وتسيء لطرفيها، ويجب تطويقها بأسرع وقت ممكن، والنزول عن شجرة العناد، وتقديم تنازل من هذا الطرف أو ذاك، لا يعيب صاحبه، بل يرفع من قدره، لأنه تنازل لشقيق محب، ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.
عبد الباري عطوان
المقال لصالح صحيفة رأي اليوم.
أضيف بتاريخ :2015/11/02