“الدولة الإسلامية” تغير إستراتيجيتها وتنتقل من الدفاع إلى الهجوم
عبد الباري عطوان
من يعيش في أوروبا هذه الأيام، يلمس بشكل واضح أن هذه القارة “العجوز″ تعيش حالة من الرعب غير مسبوقة، تسود أوساط الحكومات والشعوب على حد سواء، مثلما تسود أيضا معظم الجاليات العربية والإسلامية التي يزيد تعداد أفرادها عن عشرة ملايين نسمة، والسبب يتلخص في كلمتين “غزوة باريس″.
الخطأ الأكبر الذي ارتكبه القادة الغربيون هو سوء تقدير قوة “الدولة الإسلامية”، والحاضنات السورية والعراقية التي توفر لها “الشرعية” و”الحماية”، وتمدها بكل أسباب “التمكن” والتمدد في الوقت نفسه.
التدخل العسكري الغربي في العراق هو الذي وضع بذرتها الاصلب، ودعم الحلفاء العرب الأعمى بالسلاح والمليارات لكل من هب ودب في سوريا لإشفاء غليلهم، وتنفيس أحقادهم بإطاحة نظام الرئيس بشار الأسد طوال السنوات الخمس الماضية، علاوة على سياسات الإقصاء والتهميش الطائفي، كلها عوامل، مجتمعة أو متفرقة، أوصلت هذه “الدولة” إلى ما وصلت إليه من جبروت وبأس وإرهاب.
بيان “الدولة الإسلامية” الذي تبنى المسؤولية عن الوقوف وراء تفجيرات باريس قال بكل جرأة ووضوح، “أنها بداية العاصفة”، فساد “الوجوم” وجوه قادة الدول العشرين، الأقوى اقتصاديا في العالم، أثناء اجتماعهم الأحد في مدينة انطاليا السياحية التركية، فغاب الاقتصاد، وحلت القضايا الأمنية، وكيفية التعامل مع هذا “المارد” الجديد الذي خرج من “القمقم”، واحتوائه، أو القضاء عليه.
***
جون برينان مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية أخذ بيان “الدولة” هذا بالجدية كلها، عندما قال، والذعر مرسوما على وجهه “أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يحضّر على الأرجح لعمليات أخرى”، وأضاف في كلمة له في مركز أبحاث واشنطن “اعتقد أنها ليست العملية الوحيدة التي خطط لها التنظيم”، في إشارة إلى هجمات باريس.
حالة الرعب نفسها وصلت إلى بريطانيا، حيث أعلن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني أنه زاد ميزانية الأجهزة الأمنية لمساعدتها على مكافحة تهديد “الدولة الإسلامية”، وبما يسمح بتوظيف 1900 عنصرا إضافيا على الأقل.
إذا تمعّنا جيدا في أدبيات “الدولة الإسلامية” وبياناتها ونصوص ومقالات مجلة “دابق” المصقولة التي تصدرها شهريا تقريبا، نجد أن هذا الرعب وتداعياته هو ما تريده، وما خططت له، وبما يؤدي إلى إلحاق الضرر بأكثر من عشرة ملايين مسلم لزعزعة ثقتهم، وتخريب علاقتهم مع وطنهم الجديد، ودفع الدول الغربية إلى إرسال قوات أرضية لمحاربتها في سورية والعراق بعد فشل أكثر من 8000 طلعة جوية منذ عام تقريبا.
“غزوة باريس″ هي أحد التطبيقات الأبرز لكتاب “إدارة التوحش” الذي وضعه أبو بكر الناجي (اسم مستعار)، أبرز مفكري الحركات “الجهادية” الإسلامية، وأصدره عام 2003، وتحول إلى “خريطة طريق” بالنسبة إليها.
الكتاب في أكثر من سبعين صفحة، لكن أبرز نظرياته تطالب باستغلال حالة الارتخاء الأمني، وضرب العدو في خاصرته الضعيفة، وبث الرعب، وتدمير اقتصاده، وضرب منتجعاته السياحية، وخلق حالة من الفوضى، الأمر الذي يحدث فراغا تملؤه هذه الحركات، ولعل إسقاط الطائرة الروسية وقتل جميع ركابها، وتخريب السياحة المصرية، احد التطبيقات الأخرى.
تنظيم “الدولة” الذي يجد نفسه في حرب في مواجهة أكثر من مئة دولة، بينها ثلاث قوى عظمى (أمريكا وروسيا والصين)، وأخرى أقل عظمة (مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا)، وثالثة إقليمية شبه عظمى (مثل السعودية وإيران) قرر أن يغير إستراتيجيته، وأن يتبنى نهج تنظيم “القاعدة” في مهاجمة أهداف غربية في عواصم أوروبية، بعد أن حقق انجازه الأول، أي “التمكن والتمدد” في محيطه الجغرافي.
بمعنى آخر، وفي ظل عجزه عن التصدي للغارات الجوية للتحالف الستيني، لعدم توفر الصواريخ والدفاعات اللازمة، قرر الانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، والضرب في العمق الغربي الأوروبي، وربما تكون “غزوة باريس″ هي “بداية العاصفة” مثلما قال البيان.
وهذه قفزة إستراتيجية نوعية تشكل تهديدا جديا وخطيرا للدول الغربية، وربما العربية أيضا، فالتنظيم شعر بالندم فيما يبدو بانخراطه في “حرب مدن” في الأشهر الأخيرة، وتكبد خسائر بشرية كبيرة (عين العرب ـ كوباني وسنجار)، وبدأ يميل أكثر إلى حرب الكر والفر (العصابات).
الفيديو الجديد الذي أصدره التنظيم الاثنين سلط الأضواء بقوة على هذه النقلة الإستراتيجية النوعية، عندما قال “نجدد الدعوة للموحدين في أوروبا والغرب الكافر وفي كل مكان باستهداف الصليبيين في عقر دارهم وأينما وجدوا”، وقال أحد المقاتلين في الفيديو نفسه موجها كلامه إلى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند “قسما سنذيقك من كؤوس الموت ألوانا.. فأنتم من بدأ.. أننا قادمون إلى أوروبا بالمفخخات والتفجيرات ولن تستطيعوا ردنا لأننا أصبحنا أفضل من ذي قبل.. ولتعلمي يا فرنسا أننا لم ننس جرائمك”.
هذا التطور الاستراتيجي الإرهابي المرعب لا يجب التقليل من شأنه، لان الاختراق الأمني الخطير الذي حققته أجهزة “الدولة الإسلامية” في تجنيد شبان من الجيل الثالث من المهاجرين في فرنسا وبلجيكا، ولا يعرفون بلدان آبائهم وأجدادهم إلا على الخريطة، ومن المجلات السياحية في معظم الأحيان، يكشف عن عقلية جبارة، وخطط مدروسة، وقدرة تنظيمية عالية، فان يهاجم ثمانية أشخاص أهدافا منتقاة بعناية بالأحزمة الناسفة والبنادق فهذا يعكس قدرات “دولة” وليس “ذئبا فرديا”، أو شخصا يائسا، مثلما كان عليه الحال في هجمات سابقة.
القصف الجوي الفرنسي السريع الذي جاء ردا على هجمات باريس يمكن فهمه، ولكنه مجرد محاولة لامتصاص حالة غضب شعبي، وانتقام فوري، وربما يعطي نتائج عكسية، لأن الانفعال والتسرع ليس هو الحل، وربما يفيد التذكير برد فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن في غزو أفغانستان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، واحتلال العراق بعدها بعامين، والباقي متروك لفهمكم ولا داعي للتكرار.
***
الأمر يتطلب إستراتيجية متكاملة بعيدة المدى، عنوانها الأول إيجاد حلول سياسية لكل قضايا المنطقة، وليس السورية فقط، ومراجعة كاملة لكل السياسات الغربية والعربية الغبية (الغبية عائدة إلى العربية) التي أوصلتنا إلى هذا الوضع الدموي المتفجر، فالحلول الأمنية والعسكرية وحدها فشلت في حل المشاكل التي جاءت من أجلها، وفرّخت مشاكل أخرى أكثر خطورة.
أكثر من ثلاثة أعوام والغرب وأتباعه العرب يتجادلون على الطريقة البيزنطية، أيهما أولا الأسد أم “الدولة الإسلامية”، فبقي الأسد وتعزز، وبقيت “الدولة” وتمددت، حتى وصلت بمتفجراتها وأحزمتها الناسفة إلى باريس، ويعلم الله أين ستكون المحطة الدموية الإرهابية المقبلة.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2015/11/17