مؤتمر الآستانة ينعقد وسط حقل ألغام كثمرة للتحالف الروسي التركي..
عبد الباري عطوان ..
بدأت ملامح مؤتمر الآستانة “السوري” تتبلور في اليومين الماضيين، فقد أعلن الرئيس الكازاخستاني نور سلطان مزار بايف أمس أن المؤتمر، أو بالأصح، المشاورات، حسب تسميته، ستعقد يوم 23 كانون الثاني (يناير) الحالي، على أن يتلوها انعقاد جلسة جديدة لمؤتمر جنيف يوم الثامن من شباط (فبراير) المقبل.
الجديد في “مشاورات” الآستانة هذه، أنها ستتم بين وفد من الحكومة السورية ووفد يمثل فصائل الجيش السوري الحر الرئيسية وعددها عشرة، التي تملك قوات على الأرض وغير موضوعة على لائحة الإرهاب، ووافقت على اتفاق وقف إطلاق النار.
هذه الفصائل تدين بالولاء لتركيا، وتقاتل معها في مدينة الباب في إطار قوات “درع الفرات”، وقبولها بالجلوس مع ممثلي الحكومة السورية للمرة الأولى للتباحث حول تثبيت وقف إطلاق النار والخروقات، ومشاكل أخرى عسكرية، يعني أنها بدأت تفرض نفسها على الخريطتين السياسية والعسكرية في سورية، وتخلت ولو بطريقة غير مباشرة عن مطالبها بإسقاط النظام، بينما لم يعد الأخير يصنفها إرهابية، ويرفض التفاوض معها.
كان لافتا أن المعارضة السياسية جرى استبعادها من مؤتمر الآستانة، ونحن نتحدث هنا عن الهيئة العليا للمفاوضات ومقرها الرياض، والائتلاف الوطني السوري ومقره إسطنبول، وعدم توجيه الدعوة إلى هؤلاء يشكل ضربة قوية لهما، وتقليص شرعية تمثيلهما للمعارضة.
***
صحيح أن المعارضة السياسية من المقرر أن تشارك في دورة انعقاد مؤتمر جنيف في شهر شباط (فبراير) تحت إشراف ستيفان دي ميستورا، المبعوث الدولي، ولكن هذه المشاركة ما زالت موضع خلاف، وشرعية تمثيل الهيئة العليا للمفاوضات في هذا المؤتمر لم تعد “احتكارية” بالصورة التي كانت عليها في المؤتمرات السابقة، لأن الفصائل المسلحة خرجت، كليا أو جزئيا، من تحت مظلتها وداعميها، وأصبحت تحت المظلة التركية بالكامل، واكتسبت شرعية أقوى باعتراف روسيا وتركيا والحكومة السورية، وربما الإيرانية أيضا بها.
هذا الاختراق الكبير في المفاوضات بشقيها السياسي والعسكري، لا يمكن أن يتم لولا “الاستدارة” التركية، والتحالف الروسي التركي المتصاعد، وقبول الرئيس رجب طيب أردوغان ما رفضت الإدارة الأمريكية بقبوله، أي الفصل بين “الجماعات الإرهابية” والأخرى “المعتدلة” في المعارضة السورية المسلحة، وهنا مربط الفرس.
تغيير صيغة مؤتمر الآستانة من مفاوضات تبحث عن السلام والحل السياسي إلى مشاورات تركز على تثبيت وقف إطلاق النار، أي الجوانب العسكرية فقط، يأتي لعدم إخراج الأمم المتحدة من المعادلة السورية، وتجنب إغضاب الولايات المتحدة والدولة الأوروبية باستقصائها الكامل منها، وأيضا بسبب المخاوف من دور تخريبي للفصائل المدرجة على قائمة الإرهاب له، أي “الدولة الإسلامية” و”فتح الشام” (النصرة)، و”أحرار الشام”، وهذه الفصائل الثلاثة تشكل قواتها على الأرض 85 بالمئة من عدد المسلحين، وتحظى بدعم مباشر أو غير مباشر من السعودية ودولة قطر، وهما الدولتان اللتان لم توجه لهما دعوة لحضور مؤتمر الآستانة، وجرى إخراجهما كليا من العملية السياسية، ولذلك من غير المستبعد أن تعملان على عرقلة هذا المؤتمر من خلال التصعيد في ميادين القتال إذا تأتى لهما ذلك.
الحكومة السورية تعتقد أن روسيا “متسرعة” في عقد هذا المؤتمر وأنه كان عليها المضي قدما في العمليات العسكرية بعد انتصار حلب للإجهاز على الجماعات المصنفة إرهابية أو غير الإرهابية، كما أنها، أي الحكومة السورية، لا تثق مطلقا بالرئيس أردوغان، وتعتبره متقلبا وثعلبا ماكرا ومراوغا، لا يمكن المراهنة عليه ومواقفه، ولكن الضغوط الروسية عليها كبيرة، ويمكن القول أن الموقف الإيراني تجاه مؤتمر الآستانة، وعدم الثقة بالرئيس التركي يتطابق مع التقويم السوري الرسمي، حسب ما أكدت لنا مصادر قريبة من الطرفين.
التطور الجديد الذي يتحدث عنه المراقبون أن فصائل المعارضة المسلحة المصنفة “إرهابية” بدأت شن حرب على الدولة السورية، وليس على الجيش فقط، مثلما كان الحال عليه أثناء معركة حلب، وبمعنى آخر، شن حرب المياه والطاقة (الغاز) لضرب الاحتياجات الأساسية للمواطنين في المناطق التابعة للحكومة المركزية.
“الدولة الإسلامية” ضربت مصادر إمداد الطاقة (الغاز) الذي تعتمد عليه محطات الكهرباء، إلى جانب التدفئة والطبخ في مصدرها في مدينة حيان، أما جبهة فتح الشام (النصرة) فتحكمت بإمدادات المياه في منطقة وادي بردى التي تغذي ستة ملايين، هم سكان العاصمة دمشق، وسط اتهامات لها بأنها لوثتها بالمازوت وقطعتها كليا لاحقا.
الجيش السوري، وبعد انهيار كل الوساطات، قرر اللجوء إلى الحل العسكري بدعم من قوات حزب الله، ولكن وساطة روسية غير مباشرة ربما نجحت في تحقيق اتفاق في الوادي يسمح بوصول فرق الإصلاح الهندسي التابعة للجيش السوري إلى مضخات المياه الثلاث في نبع الفيجة لإصلاحها واستئناف ضخ المياه مجددا إلى العاصمة، وفتح ممر لخروج الغرباء، أي غير السوريين، وتسوية أوضاع بعض المسلحين السوريين مقابل نزع أسلحتهم الثقيلة، وشككت بعض أوساط المعارضة ومن بينها المصدر السوري لحقوق الإنسان بالتوصل إلى هذا الاتفاق الذي أعلنت عنه الدولة السورية عبر وكالة أنباء “سانا” الرسمية، وإذا كان الحال كذلك فأننا أمام حرب حياة أو موت بالنسبة إلى الجيش السوري، لأن وقف إمدادات المياه عن ملايين السكان في العاصمة ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب، حسب تصنيف الأمم المتحدة، أيا كانت الجهة التي تقف خلفها.
***
التحالف التركي الروسي بات المهيمن في الوقت الراهن على الأقل، على مجريات الأمور في سورية عسكريا أو سياسيا، فالروس يمثلون الحكومة، والأتراك يتحدثون باسم المعارضة التي يملكون أوراق ضغط قوية عليها، فإغلاق تركيا الحدود في وجه إمداداتها العسكرية والمالية والسياسية يعني خنقها كليا، وهذا ما فهمته، وعملت به، فصائل الجيش السوري الحر مبكرا.
الخاسر الأكبر في ظل هذه التطورات المتسارعة هي هيئات المعارضة السياسية، وهيئة المفاوضات العليا، والائتلاف الوطني السوري، تحديدا، إلى جانب الدول الداعمة لهما في الخليج على مدى السنوات الست الماضية، ولا نستبعد أن يكون مؤتمر الآستانة فصل الختام، وإسدال الستار عليها، وبدء مرحلة جديدة، بوجوه جديدة، وتفاهمات جديدة تتمحور معظمها حول بقاء الحكومة والرئيس بشار الأسد، ومن يقول غير ذلك لا يفهم قواعد اللعبة الجديدة، بشقيها الدولي والإقليمي، التي تتبلور بسرعة منذ انتهاء معركة حلب الكبرى وتداعياتها.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/01/12