بوتين ينتظر اعتذارا تركيا لو يصل وقد لايصل
الكاتب: عبد الباري عطوان
ما زال الجدل مستمرا حول مسألة إسقاط الطائرة الروسية فوق جبل التركمان السوري القريب من الحدود التركية، في وقت تتواصل فيه الجهود لتطويق هذه الأزمة الطارئة، وأبرزها الزيارة التي يقوم بها حاليا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى موسكو، ويلتقي خلالها نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
الجميع يتحدث عن التهدئة، ويطالب التحلي بضبط النفس، سواء في الجانب التركي أو الجانب الروسي، فروسيا نشرت منظومة صواريخ اس 400 الحديثة المضادة للطائرات والصواريخ في سورية، وحركت منظومات دفاعية أخرى مزودة بصواريخ اس 300 الأقل تطورا، وكل هذا يحدث في وقت تقصف فيه الطائرات الروسية مناطق التركمان نفسها، وتؤكد أنها لن ترد عسكريا وتكتفي بعقوبات اقتصادية.
الانطباع السائد لدى الروس، وجرى التعبير عنه على السنة العديد من جنرلاتهم السابقين، الذين تحولوا إلى محللين، يفيد بأن تركيا اتخذت قرار إسقاط طائرة السوخوي قبل أسابيع، أو حتى أيام، وبعد التشاور والتنسيق مع واشنطن، وحلف الناتو، فعقود بيع الطائرات الأمريكية من طراز اف 16 الذي اسقط الطائرة الروسية ينص على حتمية هذا التنسيق كشرط أساسي، وما يؤكد على هذه الحقيقة أن متحدثا باسم الجيش التركي أكد أمس أن من اسقط الطائرة الروسية لم يعلم أنها روسية، وكان ملتزما بقواعد الاشتباك والتعليمات المعطاه له في هذا الخصوص.
***
اختراق الدول لأجواء بعضها البعض من الأمور المألوفة، ولكن ما هو غير مألوف هو إسقاطها، فتركيا تخترق الأجواء اليونانية، والشيء نفسه تفعله الطائرات اليونانية للأجواء التركية، وإسرائيل اخترقت، وتخترق الأجواء التركية أيضا عندما هاجمت أهدافا داخل سورية، بل واعتدت على السيادة التركية في عرض البحر، وقتلت تسعة مواطنين أتراك على ظهر السفينة مرمرة، ولم تتحرك الطائرات التركية، لكن في الحالة الروسية الأمر مختلف، فالبلدان في حال حرب غير معلنة في سورية، والطائرة الروسية التي أسقطت كانت تقصف مواطنين “أتراكا”، فكل تركماني موجود في أي بقعة من العالم باتت تركيا مسؤولة عن حمايتة، وهذا ما قاله الرئيس رجب طيب أردوغان صراحة.
وربما يجادل البعض بأن هذا المبدأ عل درجة كبيرة من الخطورة رغم وجاهته، وقد يستخدم ضد تركيا نفسها، فهناك أكثر من عشرين مليون تركي من أصول عربية فهل هذا يعطي الحق للحكومات العربية، في يوم ما، التدخل عسكريا لحمايتهم؟ والشي نفسه يقال عن المواطنين الأتراك من أصول ارمنية، واذرية، ويونانية، والقائمة تطول.
الذين يعرفون الرئيس بوتين يؤكدون انه رجل عنيد، ويتمتع باعتداد عال بالنفس، ولكنه صبور في الوقت نفسه، ويحسب خطواته بشكل جيد، ومن المؤكد أن إسقاط الطائرة الروسية شكل استفزازا له، ومن المؤكد أيضا أن رفض تركيا تقديم أي اعتذار يشكل استفزازا اكبر، وقال صراحة “تركيا لم تقدم اعتذارا، ولم تقدم عروضا للتعويض عن إسقاط الطائرة ومقتل احد طياريها، ولم تتعهد بمعاقبة المسؤولين عن هذه الجريمة”، ورد عليه مولود جاويش اوغلو وزير خارجية تركيا من قبرص التركية بالتأكيد بأن “تركيا لن تعتذر، واكتفت بالتعبير عن الأسف فقط”.
وجود صواريخ اس 400 المتقدمة جدا غير قواعد اللعبة العسكرية في سورية، فهذه الصواريخ باتت تشكل تهديدا لكل الطائرات الغربية والعربية التي تزدحم بها الأجواء السورية، مثلما تبدد آمال الرئيس اردوغان في إقامة مناطق حظر جوي داخل سورية، أما القلق الإسرائيلي من وجود هذه الصواريخ جرى التعبير عنه على أعلى المستويات العسكرية، لان الطائرات الإسرائيلية لن تتمتع بالتحليق في الأجواء السورية دون اعتراض، وتقصف ما تشاء من مواقع ومنظومات صواريخ بحجة أنها كانت في طريقها إلى “حزب الله”، أو هكذا يقول المنطق.
الرئيس بوتين قال انه سليجأ إلى “الرد اقتصاديا” على تركيا، الأمر الذي يعني حرمانها فورا من عشرة مليارات دولار سنويا، هي عوائد السياحة الروسية، والصادرات الزراعية التركية لروسية التي تقدر بحوالي أربعة مليارات دولار سنويا، وأكثر من ضعفيها كواردات سياحية للخزينة التركية، واصدر بوتين أمرا باستيراد الطماطم من المغرب، ودول أخرى غير تركيا، وتقدر واردات روسيا من هذا الصنف حوالي 300 مليون دولار سنويا فقط، ونتوقع انكماشا في صناعة السياحة التركية التي تقدر بحوالي 36 مليار دولار بسبب التوتر المحتل الذي قد يستمر لأعوام.
من سيعوض تركيا هذه الخسائر الاقتصادية التي قد تصل إلى 50 مليار دولار سنويا من السياحة والصادرات الزراعية والصناعية؟، الحليفان السعودي والقطري مثلا؟ وفي مثل هذا الوقت الذي تنهار فيه أسعار النفط والغاز، وتلجأ الدول الخليجية إلى سياسات التقشف، وتغرق في حرب استنزاف بلا قاع في اليمن؟
روسيا طلبت من مواطنيها عدم التوجه إلى تركيا، ومنعت 50 تركيا من الدخول إليها، رغم إلغاء نظام التأشيرات بين البلدين، ومثل هذه القرارات لا تصدر إلا في حالة التوتر القصوى، وتزايد احتمالات نشوب حرب.
هيبة روسيا اهتزت مرتين هذا الشهر، الأولى بإسقاط طائرة مدنية في أجواء سيناء، والثانية بإسقاط طائرة عسكرية فوق الأراضي السورية، بوتين انتقم للأولى بتكثيف الضربات ضد مواقع “الدولة الإسلامية” في شرق سورية وشمالها الغربي، ولكن السؤال هو هل سيكتفي بالانتقام للثانية بعقوبات اقتصادية؟ لا نرجح ذلك في المستقبل المنظور على الأقل.
الدول العظمى لها قوانينها الخاصة في الانتقام، فأمريكا غزت أفغانستان واحتلتها انتقاما لهجمات برج التجارة العالمي عام 2001، واحتلت العراق بعد عامين، وقبلها قصفت ليبيا انتقاما من إسقاط طائرة لوكربي فوق اسكتلندا، وروسيا احتلت اوسيتيا الجنوبية ردا على تطاول جورجيا عليها عام 2008، والقرم عام 2014 كرد على التحدي الأوكراني، وليس هذا مجال الإطالة وشرح الأسباب.
***
اندلاع الحرب ليس في مصلحة الطرفين التركي والروسي لأنه سيعني الدمار الشامل بالنظر إلى الأطراف الأخرى التي يمكن أن تنجر إلى هذه الحرب وقدراتها العسكرية الهائلة، فالنار تحت الرماد، وأي خطأ من هنا، أو عناد من هناك قد يشعلها، ولأعوام مقبلة.
كيف يمكن منع هذه الحرب؟ يصعب علينا الإجابة، ولكن يمكن التكهن بأن إسقاط طائرة تركية مقابل الروسية قد يحفظ لبوتين كرامته، ولو بصورة مؤقتة، واعتذار تركي ربما يمتص الكثير من الغضب أن لم يكن الغضب كله، اللهم إلا إذا كانت هناك مخططات معدة سلفا لإغراق تركيا وروسيا في حرب ضروس لأنهاك الطرفين، وجر حلفاء شرق أوسطيين، وربما أوروبيين إليها، وهذه مسألة أخرى، فالغرب يعتبر روسيا العدو الأول وتركيا الثاني، وتجربة تركيا الاقتصادية النموذجية، وطموحات أردوغان العثمانية، كلها خلقت أعداء كثر في الغرب.
تفاهمات منظومة فيينا لإيجاد حل سياسي للازمة السورية انهارت، أو في النزع الأخير، وعلى الحكومات الخليجية الحليفة لأمريكا أن تحضر دفاتر شيكاتها، وربما طائراتها الأمريكية من طراز “اف 16″ لحرب حثيثة في سورية ضد روسيا، وليس حربا استعراضية ضد “الدولة الإسلامية”، مثلما كان عليه الحال قبل عام، والأيام بيننا.
المقال لصالح صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2015/11/27