فلسفة التربية التفاعلية
عبدالله المطيري ..
الطلاب والطالبات مليئون بالطاقة والأمل، خصوصا في سنينهم الأولى في المدرسة، لكن هذه الطاقة تتلاشى وتفتر حين تكون تجاربهم التربوية خالية من الفعالية
فلسفة التربية التفاعلية تقوم بشكل أساسي على الربط المباشر بين الفعل والفكر، بين الواقع والنظرية، بين الأطروحة وأهدافها ونتائجها. فيما سبق كان الحديث عن تصورين لفلسفة التربية. التصور الأول هو التصور التطبيقي القائم على فكرة النظر للميدان التربوي على أنه ميدان لتطبيق الأفكار التربوية. في هذا السياق يكون تفكير فيلسوف التربية الذي يفكر بهذا المنطق أن ينتج تصوراته الفلسفية ثم ينظر للعملية التربوية بناء عليها. في هذا المقال سأحاول نقد هذه الأطروحة.
النقد الأول يشير إلى فقدان هذا الطرح لإدراك الطبيعة التفاعلية للتفكير وارتباطه الوثيق بالواقع ومشكلاته. هذا الفصل بين النظرية والتطبيق يسبب إشكالات كثيرة، منها ابتعاد الفكر عن الواقع، وابتعاد التطبيق عن الفكر. الحالة الأولى «ابتعاد الفكر عن الواقع» معلومة ومتداولة عند من يمارس التربية بشكل مباشر ويومي، وتأتيه التعليمات والتوجيهات من خارج بيئته التربوية. العبارة الشائعة لدى المعلمين والمعلمات أن التعليمات هذه تأتيهم من أشخاص يعيشون في أبراجهم العاجية ولا يمارسون التربية بشكل دقيق وتفصيلي. العمل البيروقراطي المتبع حاليا في أنظمة التعليم المركزية يتسبب فعلا في توسيع الفجوة بين مشاكل التربية وحلولها، أو بين المشاكل التي تنتج في الميدان والحلول التي تعد في الإدارات.
هذا الربط الوثيق بين الفكر والواقع يقلق الكثير من الأطروحات المثالية التي تعتقد أن هناك قضايا مجردة لا ترتبط بشكل مباشر بالواقع. التعليق على هذه الأطروحة يمكن أن يأخذ أكثر من وجهة. منها أن ربط الفكر بالواقع لا يعني بالضرورة رفض هذه المستويات من التفكير، لكنه ينظر لها بشكل مختلف. التفكير المجرد هنا ليس إلا مرحلة من مراحل التفكير في مشكلة واقعية ما، أو طورا من أطوارها. ربط الفكر بالواقع إذن ليس إلا إعادة لعرض الصورة الكبيرة أو المخطط الكبير الذي تظهر فيه الصورة على أن التفكير المجرد كان خطوة أو مرحلة في رحلة البحث عن مشكلة واقعية. خذ مثلا نظرية المثل عند أفلاطون. رغم مثاليتها المفرطة إلا أنها لم تكن سوى محاولة للبحث عن حلول للمشاكل السياسية والاجتماعية في المجتمع الأثيني. لذا فالأطروحة التفاعلية للفكر التربوي لا ترفض أو تنكر وجود أطوار للفكر المجرد، لكنها تدفع باتجاه توسيع دائرة النظر وإعادة تلك الأطوار للصورة الكبيرة بحيث تبدو كخطوة في طريق متصل. الطور المجرد لا بد أن يتبعه طور واقعي يعيد وضع الأفكار في سياق حل المشكلات الذي بدأت به.
ابتعاد الواقع عن الفكر في المقابل ينتج لنا واقعا لا يفكر، واقعا تنفيذيا يفتقد الحس النقدي وآلية علاج المشاكل. هذا أيضا يمكن ملاحظته في الممارسات التربوية المباشرة، خصوصا في المدارس، حيث تجد العمل يأخذ صيغة التنفيذ المباشر ويفتقد آليات التفكير والنقد التي يفترض أن تساعد الإنسان على حل المشاكل التي يواجهها. يبدو أنه مع الفصل الواضح بين الميدان التربوي وصناعة القرار تراكمت تجارب وخبرات على المعلمين والمعلمات تدفع باتجاه أنهم لا يملكون حق اتخاذ قرارات، وأن الوظيفة المنوطة بهم محصورة في تنفيذ التعليمات التي ترد لهم من الجهات الإدارية. هذا الأمر يمكن ملاحظته كذلك في برامج إعداد المعلمين والمعلمات في الجامعات، حيث يتركز التأهيل على الجانب المعلوماتي، ويفتقد تنمية قدرات حل المشاكل واتخاذ القرارات والتفكير النقدي في الممارسة التربوية المباشرة.
هذا الفصل الحاد بين المشاكل وجهات حل المشاكل يصيب التربويين المباشرين للعملية التربية بالإحباط، لأن تجاربهم وخبراتهم وأفكارهم التي نتجت من العمل في الميدان تبقى حبيسة أذهانهم، باعتبار أنها لا تأخذ مسارها الطبيعي للتجريب والتطبيق. الحديث هنا بالتأكيد يتعارض مع مركزية التعليم ويدفع باتجاه تضييق المسافة بين المشاكل وجهات اتخاذ القرار. الإحباط عامل مؤثر بطريقة قد لا ندركها من الوهلة الأولى. العمل التربوي يستمد طاقته من التفاؤل والأمل في المستقبل. الأم مثلا تجد في أطفالها مستقبلا يتحقق يوما بعد يوم. تربيتها لهم مدفوعة بتلك الطاقة المتولدة من تصورها لمستقبلهم وتجاربهم المقبلة. نتذكر هنا أن عزاء كثيرا من ونحن صغار كان يولد مع عبارة «عندما أكبر سأفعل كذا وكذا». الطلاب والطالبات مليئون بالطاقة والأمل، خصوصا في سنينهم الأولى في المدرسة. لكن هذه الطاقة تتلاشى وتفتر حين تكون تجاربهم التربوية خالية من الفعالية والمشاركة والتجريب واتخاذ القرار. هذا الإحباط يتعزز كذلك مع التفاعل مع معلمة أو معلم محبط كذلك. الإحباط هنا هو عدو الحياة في المدارس، والذي يحيلها إلى مجرد أماكن تقوم بأعمال روتينية رسمية بدلا من كونها قلوبا نابضة بالتفاعل والتساؤل وربط الأهداف بالأفعال، وحل المشاكل والتواصل مع الآخرين.
فيلسوف التربية الذي يفكر بالمنطق التطبيقي لا يوافق بالضرورة على فصل الفكر عن الواقع في التربية، لكن المنهجية التي يستخدمها تدفع بقوة في هذا الاتجاه. هذه المنهجية تأخذ نفس التصميم: نفكر في المكتب ونطبق في المدرسة. الوضع هنا يشبه الكيميائي أو الفيزيائي الذي يفكر في مكتبه ويرسل نظرياته للمعمل ليتم تطبيقها. نعلم أو الواقع في البيئات العلمية الناجحة أن العالم يفكر في المعمل والمختبر، وأن نظرياته وثيقة الصلة بالتفاعل المباشر الذي يحدث بين أفكاره المقترحة وبين تطبيقها في الواقع.
الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/04/05