ترامب تحول إلى “بطل” في نظر الكثير من العرب والإسرائيليين معا في توافق ملفت
عبد الباري عطوان ..
خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بطلا شجاعا من القصف الصاروخي الذي أمر به لمطار شعيرات العسكري في محافظة حمص، انتقاما لما قال إنه مجزرة بالأسلحة الكيميائية ارتكبتها طائرات سورية في منطقة خان شيخون على أطراف مدينة إدلب، وراح ضحيتها مئة شخص من بينهم 30 طفلا، ومن يتابع وسائط التواصل الاجتماعي التابعة لدول أيدت القصف خاصة المملكة العربية السعودية ودول خليجية، يجد أنها مليئة بالإطراء والمديح لهذا الرئيس الذي فعل ما جبن عن فعله سلفه باراك أوباما الذي وصفه البعض بـ”العبد” الأسود، وعلى الأرضية العنصرية نفسها لمعبودهم الجديد.
هذا الموقف مفهوم، وناتج عن اعتقاد، بأن الرئيس الأمريكي “الشجاع″ سيغير موازين القوى في ميادين القتال في سورية، وسيطيح بالرئيس بشار الأسد ونظامه حتما، مثلما أطاح الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بالرئيس العراقي صدام حسين ونظامه، في مثل هذا اليوم 9 (أبريل) قبل 14 عاما، ولكن الرئيس الأمريكي قد لا يذهب حتى نهاية الشوط، ويحقق لمعجبيه العرب هذه الأمنية الغالية، وقد لا يكرر الضربة نفسها تجنبا للعواقب، أو لمنع الدولة الأمريكية العميقة التي باتت تخشى من نتائج تهوره.
***
لأول مرة تلتقي معظم أجهزة إعلام عربية مع نظيرتها الإسرائيلية على “تأليه” رئيس أمريكي، ووضعه في مكانة عليا، لم يصل إليها أي رئيس من قبل، حتى أن أحد المعلقين الإسرائيليين قال إن الرئيس ترامب “أثبت بهذه الضربة أنه لا يخشى نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ولا يخشى أي مستمسكات لجهاز مخابراته “كي جي بي” عليه، بما في ذلك تصوره في أوضاع مخلة”.
هذا الالتقاء الإعلامي الإسرائيلي العربي (نتحدث هنا عن إعلام الدول المؤيدة لأمريكا” يتوازى مع لقاء رسمي تطبيعي سياسي اقتصادي بات على وشك الانتقال من السرية إلى العلنية، وربما يكون تمهيدا محسوبا له.
السيد بن علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي كان الأكثر وضوحا عندما أكد، وبعد ترحيبه بالضربة، إنها لا تكفي لوحدها، ويجب أن تكون واحدة من سلسلة ضربات أخرى، ولا مانع أن تستهدف إحداها القصر الجمهوري السوري في دمشق، وربما هذا ما شجع السيدة نيكي هيلي، مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن إلى طمأنته بأنه من المحتمل أن تكون هناك ضربات أخرى.
لا نجزم، ومن خلال رصدنا للمواقف الأمريكية وردود فعل الخبراء، بأنه ستكون هناك ضربات أخرى، وليعذرنا البعض الذي ينتظرها على أحر من الجمر، لأن هذه الضربة لا تأتي في إطار إستراتيجية أمريكية، لأنها غير موجودة، وهناك من يقول “إن إستراتيجية ترامب تتمثل في عدم وجود إستراتيجية في سورية تحديدا”، وما شاهدناه حتى الآن، أن الرجل، أي ترامب، “يحب كل من يكرهه أوباما ويفعل كل ما تجنب فعله، والعكس صحيح في الحالتين، وهذه إستراتيجية فريدة من نوعها.
القيادة الروسية تلتزم الصمت، وتتقتر في الحديث عن الرد، وكشف أوراقها الإستراتيجية بالتالي، وهذا الصمت ربما يخيف أكثر من التهديدات “العنترية”، ولكن البيان الإيراني الروسي المشترك الذي صدر اليوم، وقال “إن العدوان الأمريكي على سورية فجر الجمعة يتجاوز الخطوط الحمر”، وأضاف “سنرد بقوة على أي عدوان على سورية، وروسيا وإيران لن تسمحا لأمريكا أن تهيمن على العالم”، وهذا تهديد إستراتيجي يتجاوز الضربة الصاروخية إلى مناطق أبعد في المنطقة وربما العالم، ويؤكد أن العدوان الأمريكي قرب اكثر بين ايران وروسيا وباعد بين موسكو وواشنطن، أي أنه أعطى نتائج عكسية تماما.
الطائرات السورية واصلت اليوم الأحد غاراتها على إدلب وقصفت منطقة “خان شيخون” التي وقعت فيها المجزرة، وفعل الطيران الروسي الشيء نفسه، ولم يصدر أي اعتراض أمريكي، وكأن حال ترامب يقول لا مانع من استئناف أعمال القتل بالصواريخ والأسلحة التقليدية، حتى لو كان بين الضحايا العديد من الأطفال، أما استخدام الأسلحة الكيميائية فهو المحرم بالنسبة إلينا كأمريكيين.
وزارة الدفاع الروسية سجلت نقطة تستحق التوقف عندها عندما قالت “أمريكا قصفت مطار الشعيرات بـ59 صاروخ توماهوك، وتعمدت استهداف طائرات ومخازن أسلحة، على اعتبار أن الطائرات التي قصفت “خان شيخون” بالأسلحة الكيميائية انطلقت من المطار نفسه، فلماذا لم تتسرب هذه الأسلحة والغازات من المخازن والطائرات في المطار”، ولماذا لم تؤثر على العشرات من الصحافيين والخبراء الذين زاروا المنطقة أمس واليوم؟”.
لا نملك إجابة على هذا السؤال لأنه موجه إلى الأمريكيين والأوروبيين والعرب الذين أكدوا مسؤولية طائرات النظام عن المجزرة، ولا نعتقد أنهم سيجيبون عن هذا السؤال، أو غيره، لأنهم لا يملكون الإجابة، وإذا ملكوها فلن يعطوها لنا أو غيرنا.
***
أذكر أنه عندما خرج الجنرال كولن بأول، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، على العالم في مجلس الأمن الدولي حاملا صورا للمعامل الكيميائية والبيولوجية العراقية المتنقلة، وملوحا بها أمام العالم بأسره، لتبرير العدوان الوشيك على العراق، كنت ضيفا على قناة “سي ان ان” في مكتبها في لندن على الهواء مباشرة، لكي أقدم وجهة النظر العربية، وأكدت ومن معلومات موثقة، أنه يكذب، وأن جميع أسلحة الدمار الشامل العراقية دمرها المفتشون الدوليون، وحذرت من أخطار الحرب الزاحفة على العراق، كان معظم العرب عربا في حينها، وكانت محطاتهم التلفزيونية في معظمها تعارض الغزو الأمريكي، رحم الله تلك الأيام.
كولن باول أمتلك الشجاعة والرجولة عندما ظهر على شاشة القناة نفسها وغيرها واعتذر للعالم عن هذه الخطيئة متألما، وقال إن المخابرات المركزية الأمريكية قدمت له هذه الصور مدعومة بتقارير مضللة، مثلما اعتذر أوباما عن ضرب ليبيا، وقال إنه أسوأ قرار اتخذه في فترتي رئاسته، وتبين أن من قدم هذه المعلومات الكاذبة عراقي اسمه رافد الجنابي جندته المخابرات الأمريكية بالتعاون مع الدكتور أحمد الجلبي، وقابلته في لندن في محطة بريطانية وهو يشارك في فيلم وثائقي، وانتهى به الحال ككل العملاء في العراء، وأخر أخباره كان يعمل نادلا في مطعم “بيرغركنغ” للوجبات السريعة في مدينة إلمانية.
نختم بالسؤال التالي: هل سيعتذر ترامب عندما يكتشف لاحقا حقيقة الجهة التي استخدمت الأسلحة الكيميائية في “خان شيخون”؟ وهل سيعتذر الذين أيدوا شجاعته وصفقوا له، ونسوا أنه الرئيس العنصري الذي منع السوريين، أيا كان الخندق الذي يقفون فيه، من دخول أمريكا إلى جانب مواطني خمس دول عربية وإسلامية أخرى؟
مرة أخرى لا ننتظر إجابة، ولا نتوقع اعتذارا من أحد، مثلما لم نتوقع أو ننتظر اعتذارا مماثلا من بعض أشقائنا العراقيين والليبيين الذين اكتشفوا الحقيقة متأخرين جدا، وبعد خراب البلدين.. والأيام بيننا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/04/10