البارزاني لم يَستقلْ وإنّما أُجبر على الاستقالة أمام بَرلمانٍ دِيمقراطيٍّ حُر.. لماذا لم تتدخّل أمريكا لحمايَته؟
عبد الباري عطوان
السيد مسعود البارزاني، رئيس إقليم كُردستان العِراق لم يَستقلْ طَوعًا، وإنّما جَرى إجباره على الاستقالة من قِبل برلمانٍ مُنتخب في اقتراعٍ نَزيه، وبَعد أن أدرك استحالة استمراره بعد الخطايا والأخطاء الكَبيرة التي ارتكبها في حق شَعبه، نتيجةَ قراراتهِ ومَواقِفه العنيدة التي قدّمت الشّخصي على العام، واجتهاداته السياسيّة غير المَدروسة.
جَبهة الرّفض ضِد السيد البارزاني كانت تَنمو وتَزداد قوّةً، داخل حِزبه، والأحزاب الكُرديّة الأُخرى، وجاء إصرارهُ على إجراء الاستفتاء، ورَفض كُل النّصائح والتوسّلات من أقرب أصدقائه بالتأجيل، الضّربة القاضية التي وَضعت نُقطة النهاية لحُكمه، وربّما لحياتِه السياسيّة أيضًا.
السيد البارزاني لم يُدرك أمرًا أساسيًّا غابَ عن ذِهنه، وكُل حِساباته وهو أن العراق تغيّر، ولم يَعُد ذلك البَلد الضّعيف الذي لم يُحرّك ساكنًا لكُل تجاوزاته الدستوريّة، وانهارت قوّاته أمام البِشمرغة في كركوك وسنجار، مِثلما انهارت قَبلها أمام “الدولة الإسلاميّة” (داعش) في مناطقٍ عديدةٍ في شمال العراق ووسطه، عراق اليوم باتَ أكثر قوّةً، وتُوجد فيه قوى عسكريّة لا يُمكن التّقليل من شَأنها، ويَنتمي إلى مِحورٍ إقليميٍّ جديد يَفرض نَفسه على المِنطقة بأسرها، حَسَم الأمور لصالِحه في سورية، وها هو يَحسمها لصالِحه أيضًا في شمال العراق.
*
بعد الاستفتاء كان من الصّعب قِيامَ أيِّ تنسيقٍ أو تعاونٍ بين السيد البارزاني وحُكومة بغداد الاتحاديّة، ولا نُبالغ إذا قُلنا أنّه قدّم “الهديّة” التي لم تَكن تَحلُم بها هذهِ الحُكومة، وكل دُول الجِوار الأُخرى، مثل إيران وتركيا، ونحن نتحدّث هُنا عن “الاستفتاء” الذي جاءَ في الوقت الخطأ وللأسباب الخطأ، وأدّى إلى النّتائج الخَطأ “بارازانيًّا”، وليس عراقيًّا أو تركيًّا أو إيرانيًّا.
لعلّ السيد البارزاني استوعبَ الدّروس المُستخلصةَ من هذهِ الكارثة، التي دمّرت أربعين عامًا من إرثه السّياسي، وإرث أُسرته، اتفقنا معه أو اختلفنا، وأبرز هذهِ الدّروس هو اعتماده على الولايات المتحدة الأمريكيّة والغَرب، ورِهانه على تدخّلها لإنقاذه، ونَسي أن أمريكا لا تُريد العَرب والأكراد إلا عُملاء، وأوراق تَرمي بِها إلى سلّة القاذورات عندما تَنتهي حاجتها مِنهم.
أمريكا التي قَدّم لها الرئيس البارزاني خدماتٍ جليلةٍ، ومن بَينها التآمر على حُكومة بغداد، وتغيير النّظام فيها بعد احتلال العراق، وقتل مليون من أبنائه، إلى جانب مِئات الآلاف من شُهداء الحِصار، أمريكا كانت أول من تخلّى عنه، ورحّبت باستقالته، وباتت تَبحث عن البَديل.
اعتقد السيد البارزاني مُخطئًا أن حظّه مع أمريكا وإسرائيل سَيكون أفضل من حظ والده، مِثلما اعتقد أن تَسهيله للعُدوان على بغداد والمُشاركة فيه، وتوفير الغِطاء له، سيُشكّل حصانةً أبديّةً له، وحمايةً أمريكيّةً مفتوحة النّهايات لأُسرته ونِظامه، وها هي “تُغيّره” بطريقةٍ مُهينةٍ جدًّا، لم تَخطر بباله مُطلقًا.
لا نتّفق معه في قَوله أن قوّات البِشمرغة التّابعة للسليمانيّة وخُصومه الطالبانيين قد ارتكبت “خيانة” عندما لم تُقاتل القوّات العراقيّة في كركوك، ونُؤكّد أن هؤلاء كانوا أكثر وطنيّةً وعقلانيّةً وحكمةً من قوّاته التي قاتلتها، فالقوّات التي أرادهم أن يُقاتلونها هي قوّات عراقيّة، تُمثّل حُكومةً اتحاديّةً، وَضع هو نَفسه دُستورها وقَوانينها، وأقسم على القرآن أن يَحترمها، ونَقَضَ العَهد وخانَ الأمانة.
السيد البارزاني تساءل عن عَدمِ دَعم الولايات المتحدة لقوّاته، وعدم تصدّيها بالتّالي للقوّات العراقيّة الزّاحفة إلى كركوك، ومن حقّه أن يَسأل هذا السّؤال، وأن يَطرحه بشكلٍ غاضب، ولكن أليس من حقّنا أن نَسأله عن عدم تَوجيهه السّؤال نَفسه إلى حَليفه الإسرائيلي الذي اختفى من المَشهد تمامًا، وتَخلّى عنه في اللّحظات الحَرِجة، بعدما كانت أعلامه تُرفرِف في سَماء أربيل يوم الاستفتاء، ويَرقص رِجال مُوسادها على أنغام مهرجانات الاحتفال في الميادين العامّة؟
لا نُريد أن يَستمر السيد البارزاني في مُسلسل الأخطاء، واللّجوء إلى التّصعيد، فمَا قاله عن استمرارهِ في البَقاء كأحد أعضاء ميليشيا البِشمرغة، والعَودة إلى الجِبال “فأل” مُرعب، ويُؤكّد أن الرّجل لا يُريد قراءة المَشهد الكُردستاني قراءةً جيّدةً وصحيحة، ويَستخلص الدّروس جيّدًا، ويُسلّم بأنّ الزّمن تَغيّر، والمُعادلة السياسيّة في العراق وجِواره تغيّرت أيضًا، وما كان يَصْلُح قبل أربعين عامًا، لم يَعُد صالحًا اليوم.
*
خِتامًا نقول بأنّ هذا ليسَ وقت الشّماتة، ونَربأ بالأشقاء العِراقيين، وخُصوم البارزاني خاصّةً، أن لا يتشفوّا بالرّجل في لحظةِ ضَعفه هذه، لأنّنا نَعتبر الأكراد، وأينما كانوا أُخوةً وأحبّة، والأقرب لنا كعَرب، فما يَجمعنا أضعاف ما يُفرّقنا، تَجمعنا العقيدة، والإرث الحَضاري، وروابط الجِوار، والتّاريخ المُشترك، وإذا جَرى تَفريقنا، وبَثْ الشّقاق بيننا، فهَو المُستعمر وفِتنَتُه الطائفيّة والعِرقيّة والسياسيّة، وهذا لا يَعني مُطلقًا أنّنا لا نَعترف ونُسلّم بأنّهم، أي الأشقاء الأكراد، تعرّضوا لمَظالم هي من بين الأضخم في المِنطقة، ودَفعوا أثمانًا غالية من أرواحهم ودِمائهم عندما تَصدّوا لها بشجاعةٍ ورجولة، كما أن الحُكومة الاتحاديّة الفاسدة ارتكبت الكَثير من الأخطاء بحقّهم، ويَجب أن تُصلحها وتُصلح نَفسها أيضًا.
نتمنّى على الأشقاء الأكراد الذين، والله، نُحبّهم، أن يُدركوا جيّدًا أن إسرائيل لن تُحارب عنهم، ولا تَكن لهم أي من الوِد، وتَستخدمهم كأداةٍ ضِد إخوانهم العَرب والأتراك والإيرانيين، والشيء نَفسه يَنطبق على أمريكا، ونَقول لهم تعالوا إلى كلمة سواء لنَفتح صفحةً جديدةً، لنُقاتل جميعًا أصحاب الفِتنة هؤلاء، ونَتعايش على أُسس الكَرامة والمُساواة والمَحبّة المُتبادلة، ونَبني صُروحًا ديمقراطيّةً، تَقودنا جميعًا إلى حَقن الدّماء، والرّخاء والتقدّم، والأوطان القويّة، فكُلّنا نَحتاج تقرير المَصير، والكرامة، والعزّة، والسيادة الوطنيّة، وتَحرير بُلداننا مِن المُستعمر الأجنبي، الذي ما زالَ جاثمًا على صُدورنا بشكلٍ مُباشر أو غيرِ مُباشر.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/10/31