القيادة السورية تخرج عن صمتها وتهدد تركيا وأمريكا معا.. ما الذي استفزها؟
عبد الباري عطوان
وزارة الخارجية السورية نشطة بشكل لافت هذه الأيام، ليس على صعيد الإعداد لمؤتمري فيينا وسوتشي اللذين يبحثان حلولا سياسية للازمة، وإنما لتوجيه تحذيرات مزدوجة لكل من تركيا التي تهدد باجتياح مدينتي عفرين ومنبج للقضاء على قوات حماية الشعب الكردي فيهما، والولايات المتحدة الأمريكية التي أكد وزير خارجيتها ريكس تيلرسون أن الجيش الأمريكي باق في سورية لتحقيق ثلاثة أهداف: الأول منع عودة “الدولة الإسلامية” بعد هزيمتها في الرقة والموصل، والثاني مواجهة النفوذ الإيراني، والثالث إخراج الرئيس الأسد من السلطة.
تصريحات تيلرسون هذه التي أدلى بها أمس في ستانفورد خلال محاضرة عن سياسة بلاده الخارجية أخرجت السلطات السورية عن صمتها، وباتت تدفعها لإعادة ترتيب سلم أولوياتها، ووضع خطط لمواجهة الوجود العسكري الأمريكي في شرق الفرات الذي يزيد تعداده عن ألف جندي مارينز، ويخطط لإقامة قواعد عسكرية دائمة في شمال سورية هدفها إقامة دولة كردية وتكوين جيش لحمايتها تعداده 30 ألف جندي، تتولى تدريبه وتسليحه لحمايتها، مثلما أعلن العقيد ريان دالون، المتحدث باسم قوات التحالف التي تقاتل “الدولة الإسلامية” قبل أسبوع.
من الواضح أن القيادة السورية التي تتبع سياسة المراحل في مواجهة أعدائها الكثر على أراضيها، بدأت تدرك أن خطة تقسيم سورية هي المرحلة الثانية لما بعد هزيمة “الدولة الإسلامية”، وأن أمريكا تتبناها بالكامل، ولهذا بدأت تلتفت لهذا الخطر وتستعد لمواجهته، مثلما جاء في بيان منسوب لمصدر في وزارة الخارجية السورية أكد “أن الوجود العسكري الأمريكي على الأراضي السورية غير شرعي وغير قانوني ويشكل انتهاكا للقانون الدولي والسيادة الوطنية ويهدف إلى حماية تنظيم داعش الذي أنشأته إدارة الرئيس أوباما، وسنتصدى لهذا الوجود غير الشرعي”.
*
بيان الخارجية السورية لم يحدد متى وكيف سيتم التصدي لهذا الوجود العسكري الأمريكي غير الشرعي، ولكن بيان “غريب” و”غامض” ومفاجيء صدر عن “غرفة العمليات لقوات حلفاء سورية” هدد “بشن ضربات على تجمعات القوات الأمريكية في سورية والمنطقة في الوقت المناسب، ردا على قصف قوات التحالف الدولي وحدات من الجيش السوري في منطقة التنف الحدودية السورية مع العراق والأردن”، ووصف البيان الصمت بأنه “ضبط نفس وليس ضعفا”.
هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها عن “غرفة العمليات” هذه، ومن غير المستبعد أن تكون بمثابة قوات “حشد شعبي سوري إيراني عراقي لبناني” جديد، تتولى شن عمليات قتالية ضد القوات الأمريكية في شمال شرق سورية، وربما في العراق أيضا (تعدادها خمسة آلاف) على غرار المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي بعد احتلال عام 2003.
فماذا يتوقع تيلرسون من سورية وإيران وحلفائهما، عندما يقول أن قوات بلاده باقية في سورية حتى بعد القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” لمحاربة النفوذ الإيراني والقضاء عليه، وإخراج الرئيس الأسد من السلطة؟ هل يتوقع أن تقذفه الدولتان السورية والإيرانية بالورود؟ وتقيم المهرجانات احتفالا بها؟
التحدي الاستراتيجي الأكبر الذي يواجه القيادة السورية هو احتمال خوضها مواجهتين عسكريتين في آن واحد، أي ضد أمريكا ومخططاتها الانفصالية في شمالها، والتهديدات التركية باجتياح مدينتي عفرين ومنبج الواقعتين تحت سيطرة قوات حماية الشعب الكردية.
السيد فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية السوري، حذر اليوم الخميس بأن القوات الجوية السورية جاهزة لتدمير الطائرات التركية في حال شنها أي هجوم على المدينتين (عفرين ومنبج)، مؤكدا “أن قوات الدفاع الجوية السورية استعادت قوتها الكاملة وهي جاهزة لتدمير الأهداف الجوية التركية في سماء سورية، لأن أي عمليات عسكرية في منطقة عفرين تشكل عدوانا من قبل الجيش التركي على أراضي سورية”.
لا نعتقد أن السيد المقداد يمكن أن يطلق مثل هذه التهديدات القوية ضد تركيا لولا حصول القيادة السورية على دعم من حليفها الروسي، الذي يعارض أي تدخل تركي في عفرين، ويقيم علاقة قوية مع القوات الكردية المسيطرة عليها، بل وتوجد قوات روسية فيها.
الرئيس أردوغان الذي تتوتر علاقة بلاده مع كل من أمريكا وروسيا بسبب دعمهما للأكراد الذي يصنف ميليشياتهم على الأرض في شمال سورية على قائمة الإرهاب، لا يستطيع أن يصطدم أيضا بالدولتين العظميين في الوقت نفسه أيضا، ويخسرهما بالتالي، ولهذا أوفد الجنرال خلوصي أكار، رئيس هيئة جيشه، والسيد هاكان فيدان، رئيس جهاز مخابراته، للقاء طارئ مع سيرغي شويغي، وزير الدفاع الروسي بحثا عن مخرج، وسعيا لدعم القيادة الروسية لمشروعه في وأد الجيش الكردي المدعوم أمريكيا في شمال شرق سورية، وتدمير قوات حماية الشعب الكردية غي عفرين ومنبج.
لا نعرف ما هي الرسالة التي يحملها المسؤولان التركيان لوزير الدفاع الروسي، لكن من الصعب علينا أن نتوقع دعما روسيا لاجتياح المدينتين بسبب العلاقات الوثيقة بين موسكو والأكراد، وحتى لو تم التوصل إلى “صفقة ما” فأن الروس لهم مطالب أبرزها رفع “الفيتو” التركي على تمثيل الأكراد في مؤتمر سوتشي، وحدوث تقارب وتنسيق اكبر بين القيادة التركية والحليفين السوري والإيراني في مواجهة خطر التقسيم الأمريكي الذي يهدد الجميع في المنطقة.
*
الرئيس أردوغان يقف أمام خيارات صعبة، فقد هدد بوأد الجيش الكردي المدعوم أمريكيا في شمال سورية في مهده، وتوعد بإجتياح عفرين ومنبج، وكون جيشا من 22 ألف عنصر من المعارضة السورية المسلحة ليكون إلى جانبه في عملية الاجتياح، أي أنه صعد على شجرة عالية لا يستطيع النزول عنها دون سلم روسي.
سورية مثلما هو واضح في بيانات وزارة خارجيتها لا تعارض “وأد” الجيش الكردي، والصدام التركي الأمريكي بالتالي، بل تتمناه، ولكنها قد لا تسكت على تدخل تركي في عفرين، وعلى الرئيس أردوغان أن يقرر مع من يصطدم أولا، مع السوريين المدعومين روسيا في شمال سورية، أم مع الأكراد المدعومين أمريكيا في شمال شرقها؟ أما الصدام مع الاثنين معا، وفي الوقت نفسه، فهذه عملية انتحار لا نعتقد انه يمكن أن يخاطر بالإقدام عليها.
عام 2018 سيكون عام الحروب الكبرى على الأرض السورية، عام ستتغير فيه خريطة التحالفات قطعا، وقد تنتقل المواجهات من حروب “الإنابة” التي تخوضها الدول الكبرى عبر السوريين عربا وأكرادا، أو الحروب المباشرة، وعلى أي حال ما زال العام في شهره الأول، ولكن البوادر والمؤشرات مخيفة ومرعبة.. وما علينا إلا الانتظار.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/01/19