رِسالةٌ “عَفويّة” من قارِئ تَستحِق الاهتمام والرَّد ليسَ مِنّا وإنّما من الرئيس الأسد..
عبد الباري عطوان
ليس من عادَتِي الرَّد أو التَّعليق على الرسائِل التي تأتيني من القُرّاء الأعزّاء، ومِن مُختَلف الجِنسيات، وأماكِن مُختَلِفة من العالم، والشَّق العَربي مِنه على وَجه الخُصوص، ولكن رسالةٌ واحِدة استوقَفتني وأجبرتني في الوَقتِ نَفسِه، للخُروج عن المَألوف، والرَّد عليها بِرسالةٍ خاصّة، لأنّها تَعكِس تَطوّرًا جَوهريًّا مُهِمًّا في الأزمةِ السُّوريّةِ هذهِ الأيّام.
الرِّسالة التي حَمَلَت تَوقيع “هشام” ووصلت عبر البريد الإلكتروني، تقول حَرفيًّا ما يلي:
السلام عليكم
أُستاذنا الكبير السيد عبد الباري عطوان، بعد إذنك أنا شب سوري مُغتَربِ بسبب الأزمةِ السوريّة، ونِحنا من الشباب يلّي تورّطنا بأوّل الأحداث، وساعَدنا على المُظاهرات بسوريا.
أنت إنسان نظرتك واقعيّة ومَنطقيّة، ورؤيتك للأُمور دائِمًا صحيحة، والله يطول بعُمرك ويعطيك الصحِّة والعافِية يا رب.
عِندي سُؤال صغير لو سمحت، بعد يلّي عم نشوفه من أحداث بسوريا هل بتتوقّع أنه الدولة السوريّة لح تطلع عَفو حقيقي عن يلّي ثاروا ضِدها، يعني المَقصد عفو يكون بيشمل كل الناس، شكرًا إلك سَلفًا أتمنّى لك دوام الصحّة والعافِية، هشام.
*
هذهِ الرِّسالة هزّتني لصِدقها وعفويّة كاتِبها، والقضيّة الهامّة التي طَرحَتها، ولاعتقادي الرَّاسِخ بأنّها تُمثِّل قِطاعًا عَريضًا من السُّوريين ضاقَت بِهم سُبل الحياة في المَهاجِر، وعانوا ويُعانون من الغُربة، وينتابُهم حنين مَشروع للعَودة إلى الوَطن، ويَشعُرون بالخُذلان وظُلم وجُحود ذي القُربى من الجَميع تقريبًا، عَربًا كانوا أم قِوى عُظمى أغرَقتهم بوعود لم تتحقّق لأسبابٍ عَديدة ليس هُنا المجال لسَردِها أو مُناقَشتها.
من غرائِب الصُّدف أنّ وُصول هذهِ الرِّسالة تزامَن مع مقال نَشره المُعارض السوري المَعروف الدكتور رضوان زيادة، اليوم الخميس في صحيفة “الحياة” السعوديّة، تحت عنوان “المُعارضة السوريّة عند مُفتَرق الطَّريق”، وَجّه فيه انتقاداتٍ غَير مَسبوقة للهيئة العُليا للمُفاوضات ومقرّها في الرياض، وباقِي فصائِل المُعارضة الأُخرى وطالَبها بِشَكلٍ غير مُباشر بالاعتراف بالهَزيمةِ العَسكريّة بعد سيطرة “قُوّات النظام” على مُعظَم الغُوطةِ الشرقيّة، بعد شَرق حلب، وقوله “أن فِكرة المُفاوضات انتهت عَمليًّا، فالنِّظام الذي لم يَكُن مُستعِدًّا للمُفاوضات خِلال لَحَظات ضَعْفِه لن يَقبَل بالمُفاوضات الآن، وهو يَشعُر بالنَّصر الفارِغ بعد الغُوطة لا سيّما وأنّ روسيا تُمثِّل حِماية دائِمة له في مَجلس الأمن وفي كُل المحافِل الدوليّة، تحميه من أيِّ مُحاسبة مُمكنة ممّا يضع المُعارضة السوريّة أمام مُفتَرقٍ صَعب”، أهم مُتطلّباته في رأيِه “وِحدة المُعارضة سِياسيًّا بعد الهزائِم العَسكريّة التي لَحِقت بها.. ويجب أن تكون قادِرة على تَقديم بدائِل للشعب السوري، وتقديم بدائِل تَخدِم مصالحها”، ولفت نظري قول الدكتور زيادة “الأبشع من الهَزيمة هو قُبولها والقُبول النَّفسي بنتائِجها ولذلك أمام الذين هُزِموا نفسيًّا من المُعارضة أن ينسَحِبوا، فطريق النِّضال طويل، وطَريق الهزيمة العَسكريّة أقساها ولكنّها لن تَكون نِهاية الطَّريق”.
ما نُريد الإشارة إليه، بعد نشر نَص رسالة السيد هشام، وأهم فَقرات من مقالة الدكتور زيادة في رأينا، أنّ السُّلطات السوريّة مُطالَبة بالرَّد عَمليًّا، وبِنوايا صادِقة، على كُل الأسئلة المَطروحة على ألسِنة المُواطنين السوريين، ليس في المَنافي فقط، وإنّما في الوَطن أيضًا، خاصّةً تِلك المُتعلّقة بتَقديم تَصوّر كامِل للمُستقبل، وتحقيق جميع المَطالب المشروعة في التَّعايش، وإصدار عَفوٍ عام يتضمّن ضَمانات حقيقيّة صادِقة بِعَدم المُلاحَقة، واحترام حُقوق الإنسان، وفَتح أبواب العَودة على مِصراعيها إلى أحضان الوطن، في إطار من التسامح وتنقية القُلوب من كُل أدران الثأريّة والنَّزعات الانتقاميّة، ونَقول هذا لأنّها الأقوى، وهِي الأقرب إلى الانتصار النِّهائي اتّفق مَعنا البَعض أو اختَلف.
سورية تَعرّضت إلى أبشعِ أنواع المُؤامرات والتدخّلات العسكريّة والسياسيّة، وتورّطت فيها قِوى عُظمى إقليميّة ودوليّة على مَدى السَّنوات السَّبع الماضِية، وكادَت هذه المُؤامرات أن تُحقِّق أغراضها لولا صُمود الجيش العربي والدولة السوريّة، ودَعم الحُلفاء الرُّوس والإيرانيين ومُقاتِلي “حزب الله”، ولكن هذا وقد تَحقّق الإنجاز يَتطلّب الأمر نَظرةً أعمق وأبعد إلى المُستقبل.
المُعارضة السوريّة بشقّيها العَسكريّ والسياسيّ، تعرّضت لخُذلان حُلفائِها العَرب والغَربيين، على حَدٍّ سَواء وخِداعِهم، وهذا الخُذلان، إلى جانِب عوامِل أُخرى مُتعدِّدة أبرزها الانقسامات الداخليّة، والأيديولوجيّة، وعَدم التبصُّر بالمُؤامرة وأضلاعِها، أدّى إلى وَضعِها الصَّعب الرَّاهِن الذي لا يَستطيع أحد نُكرانه.
القِيادة السوريّة التي باتت تَمْلُك أسباب القُوّة والثِّقة بالنَّفس أكثر من أيِّ وَقتٍ مَضى، مُطالبة بالتقدُّم بمُبادَرة تُجاه أبنائها السوريين في المَهجر خاصّةً، تُطمئِنهم على المُستقبل، وتُقدِّم لهم ليس “غُصن زيتون” وإنّما أشجار من زيتون السَّلام، لحَثِّهم على العَودة إلى الوطن، والمُشاركة في البِناء وإعادة الإعمار، وهي تَعلم جيِّدًا أنّهم يَنتمون إلى شَعب خلّاق يَمْلُك قُدرات وعَزيمة عالِية في هذا الصَّدد، وقادِر على خَلق المُعجِزات.
*
قُلناها، ونَقولها، أن سورية أكبر من الجَميع، وهي قادِرة ومُؤهّلة على احتضان الجَميع أيضًا، وكانَت دائِمًا وستَظَل أرض التَّسامُح والتَّعايُش، وتاريخها المُشرِّف مَليء بالصَّفحات النَّاصِعةِ البَياض في هذا المِضمار.
أتمنّى شَخصيًّا أن ألتقي السيد هشام، كاتِب الرِّسالة، على أرض سورية بعد عَودتِه والمَلايين من أهلِه وأشقائِه إليها، مِثلما أتمنّى أيضًا أن أرى الدكتورة التي صادَفتها في برلين قبل أربعة أعوام، وقالت لي أنّها عادَت إلى إدلب قَبل “الثَّورة” بأعوامٍ قليلة لتُقيم هِي وزَوجها الطبيب مستشفى كبيرًا لمُعالجة أبناء شَعبها بعد سنوات من الغُربة لمُعارَضتها للنِّظام، ثم اضْطرّت مُكرَهة للعَودة إلى ألمانيا وتَرْك كُل شَيء بسبب الفَوضى التي سادَت البِلاد بعد عام 2011، على حَد وَصفِها، وتنبّأت لكُل ما حَدَثَ من دَمارٍ وخَراب.
أتمنّى أن يعود جميع السُّوريين إلى وَطنِهم ويُشارِكون في إعادة بِنائِه في إطار سورية دِيمقراطيّة تَسودها العَدالة الاجتماعيّة، والحُريّات السياسيّة والتعبيريّة، والقَضاء المُستقِل، في إطارٍ دستور تَعدُّدِي يَكون الضَّابِط والحَكَم للجَميع دون أيِّ تَفْرِقَةٍ عِرقيّة أو طائِفيّة أو طَبقيّة.
ربّما يتّهمنا البَعض باتّهامات كثيرة أبرزها الغَرق في أحلام اليَقظة، أو المِثاليّة، وردّنا هو ألم تتوحّد ألمانيا مُجدّدًا؟ ألم يتوحّد اللبنانيون بعد 15 عامًا من الحَرب الأهليّة؟ ألم تتوحّد أوروبا بعد حُروبٍ دَمويّةٍ مَزّقَتها وقَتلت 50 مِليونًا من أبنائِها؟ ألم يَبدأ العِراق بالتَّعافي التَّدريجي رُغم كل التحفُّظات، والفِتن الطائفيّة والاحتلال الأمريكي؟
اتركونا نَحلُم.. اتركونا نُؤمِن بالقَول الحَكيم تفاءَلوا بالخَير تَجِدوه.. من حَقّنا أن نتفاءل بعد سنواتٍ عِجاف من القَتل والتَّحريض والفِتن الطائفيّة التي أغرَقَتنا في حَمّامات الدِّماء وبِتَوجيهٍ أمريكيٍّ إسرائيليّ.
خَسِرنا العِراق.. وليبيا واليمن وكِدنا نَخْسَر الجزائر، وحانَ الوَقت أن نُقلِّص الخَسائِر إذا لم نَستَطِع وَقْفَها.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/03/30