تأكيد السلطات التركية رسميا “تذويب” جثمان الخاشقجي بالحمض وتقديم تسجيلات موثقة لعدة دول
عبد الباري عطوان
ربما تكون السلطات التركية أطلقت الرصاصة الأخيرة في جعبتها فيما يتعلق بملف اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي عندما أعلن السيد ياسين اقطاي، مستشار الرئيس رجب طيب أردوغان أن قتلته ذوبوا جثته في الأسيد بعد تقطيعها لتسهيل عملية التذويب هذه، وأثبتت العينات التي أخذت من مياه الصرف الصحي في بئر في منزل القنصل السعودي، وأيضا في أنابيب المجاري وجود آثار كمادة الحمض المستخدم.
لا نعتقد أن هذا الكشف سيسدل الستار على الفصل الأخير لهذه المأساة، بل ربما يسجل بداية الحلقة الأهم، وهي تحديد أدوار المجرمين المنفذين، كبارا كانوا أو صغارا، وتقديمهم للعدالة لمواجهة القصاص الذي يستحقونه، ومستقبل قادة الحكم في الرياض، وشكله على ضوء ذلك.
إرسال السلطات السعودية لخبيرين في الكيمياء وعلم السموم إلى إسطنبول في محاولة لإخفاء الأدلة، وقبلها وجود طبيب شرعي مختص في التشريح ضمن فريق الموت، كلها مؤشرات تنفي الكثير من الروايات الرسمية المرتبكة التي قالت إن الضحية مات خنقا اثر شجار مع فريق الاغتيال داخل القنصلية، وتؤكد في الوقت نفسه أن عملية القتل، وبهذه الصورة الدموية البشعة، كانت مخططة بشكل مسبق، أي أن نظرية “القتل غير المتعمد” التي روجت لها السلطات السعودية لا تقف على أي رجلين، ولم تعد تقنع أكثر الناس سذاجة.
***
الرئيس رجب طيب أردوغان الذي أدار فصول هذه الأزمة ببراعة، وأبقاها حية لأكثر من شهر، وعبأ الرأي العام وحكوماته، في العالم ضد القتلة، ومن يقف وراءهم، أكد صباح اليوم السبت في مؤتمر صحافي عقده قبل توجهه إلى باريس للمشاركة في احتفالات الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، أكد أنه قدم تسجيلات موثقة عن عملية القتل داخل القنصلية السعودية إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا وفرنسا علاوة على المملكة العربية السعودية، وهي أدلة موثقة بالصوت والصورة.
لقاء القمة الثنائي المتوقع عقده على هامش هذه الاحتفالية بين الرئيسين الأمريكي والتركي سيكون حاسما في هذا الإطار، وسيضع الكثير من النقاط على الحروف الناقصة لهذه الجريمة، وربما سيبلور الخطة التركية الأمريكية المشتركة للتحرك في المرحلة المقبلة بخصوص ملف هذه الجريمة إذا اتفق الجانبان، وهو أمر غير مضمون بالنسبة إلى آخر تصريح للرئيس ترامب وقال فيه إن السعودية حجر الأساس في استقرار المنطقة، أي لا يجب إلحاق أي ضرر بها.
الرئيس أردوغان قال أكثر من مرة أن الأوامر بتنفيذ عملية القتل صدرت عن أعلى المستويات في السلطة السعودية، ولكنه شدد على أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تحدث معه هاتفيا أكثر من مرة، فوق أي شبهة في هذه الجريمة، مشيرا بأصبع الاتهام، وبشكل مباشر إلى نجله الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، الحاكم الفعلي للبلاد، ووجود نسبة كبيرة من مساعديه في “فريق الموت” المنفذ للجريمة الذين يأتمرون بأمره مباشرة.
السؤال الذي يطرح نفسه، ويبحث أن إجابة يتعلق بموقف الرئيس ترامب الذي اطلع حتما على التسجيلات التركية لوقائع الجريمة، سواء بشكل مباشر، أو من خلال شهادة السيدة جينا هسبل رئيسة مخابراته التي حملتها إليه أثناء عودتها من إسطنبول.
الأوساط المقربة من الرئيس الأمريكي بدأت تمهد لخطوتها المقبلة من خلال الحديث بأن الولايات المتحدة تفرض عقوبات على أشخاص وليس دولا، مما يعني أنها ستحصر عقوباتها على أعضاء الفريق المتورط في عملية الاغتيال حصريا، وليس على الدولة السعودية، وربما تقتصر هذه العقوبات على إفراد منفذين وتتمثل في تجميد أموال وأصول، ومنع من دخول الولايات المتحدة فقط، مما يعني أنها قد لا تمس الأمير محمد بن سلمان الذي يرتبط بعلاقات قوية مع الرئيس ترامب وصهره جاريد كوشنر، ويعتبر من أبرز المؤيدين والداعمين لصفقة القرن، والعقوبات المفروضة على إيران، وأي حرب أمريكية إسرائيلية ضدها.
لا نعرف كيف ستكون العقوبات التي تعهد ترامب بفرضها على السلطات السعودية أثناء مؤتمره الصحافي الأخير والمرتبك الذي عقده في أعقاب إعلان نتائج الانتخابات النصفية الأمريكية التي خسر فيها حزبه الجمهوري أغلبيته في مجلس النواب، ولكن ما نعرفه، أن هذا المجلس الديمقراطي لن يقبل بأنصاف الحلول، خاصة بعد تفعيل فقرة “ماغنيستي” في الدستور الأمريكي التي تفرض عقوبات على الزعماء المتورطين في ارتكاب جرائم تنتهك حقوق الإنسان.
***
نتائج الانتخابات الأخيرة وضعت الرئيس ترامب في مواجهة جبهة هي الأضخم، وربما الأقوى، في الولايات المتحدة، أي مجلس النواب والإعلام الأمريكي معا، وهي جبهة قد لا تطيح بمن يقف خلف جريمة اغتيال الخاشقجي وإنما الرئيس الأمريكي نفسه إذا لم يفرض العقوبات المنتظرة.
نعيد التذكير مجددا بأن الإعلام الأمريكي وصحيفة “الواشنطن بوست” هي التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون، وبعد انتخابه لولاية ثانية، واتخاذه قرار إنهاء حرب فيتنام، ولا نعتقد أنه قد تقبل بأي محاولة التفاف لتبرئة صاحب القرار الأول في قتل وتذويب جثمان أحد كتابها بهذه الطريقة، التي تمت للعهد الحجري وليس القرن الواحد والعشرين.
لن نستبق الأمور، وسننتظر ما هو قادم من تطورات في هذا الملف، وهي قطعا كثيرة وصادمة، والشيء الوحيد الذي يؤلمنا، ونحن متيقنون من حدوثه، أن “وصية” خاشقجي بالصلاة على جثمانه في المسجد النبوي، وبدفنه في مقابر البقيع في المدينة المنورة، مسقط رأسه لن تتحقق.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/11/10