نِتنياهو يَهرُب مِن صَواريخ المُقاوَمة وأنفاقِها إلى التَّطبيع مَع أصدقائِه العَرب الجُدد..
عبد الباري عطوان
القاعِدة الذهبيّة التي بِتنا نَحفَظها عَن ظَهر قَلب ومِن خلال تَطبيقاتِها طِوال السَّنوات الماضِية أنّه كُلّما واجَه بنيامين نِتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيليّ أزمةً تُهدِّد حُكومته ودَولته، يَلجأ إلى سِلاحِ العِلاقات العامّة الذي يُجيده، ويَجِد طَوق النَّجاة في الحُكومات العربيّة، و”إنجازات” التَّطبيع المَجّاني والمُعيب مَعها.
نِتنياهو يُواجِه حاليًّا تَحدّياتً خَطيرةً في ثلاثِ جبهاتٍ، الأُولى جَنوب لبنان، حيثُ تتصاعَد قُوّة حزب الله الصاروخيّة وخُبراته في الحَرب البريّة، والثّانية في سورية في ظِل تنامِي القُوّة الإيرانيّة، وتَعافِي سورية وجيشها، والثّالثة في الضِّفَّة الغَربيّة حيثُ بَدأت المُقاومة المُسلَّحة تتصاعَد وفي قِطاع غزّة، حيثُ تَعرّض لهَزيمةٍ كُبرَى اضطرَّ لاستِجداء وقْفٍ لإطلاقِ النّار بعد 48 ساعة، خَوفًا مِن أن تَصِل صواريخ المُقاوَمة إلى قَلبِ تل أبيب وحيفا، وهِي ستَصِل حتْمًا في الجولةِ القادِمةِ الوَشيكة.
وبَدلًا مِن مُواجَهة هَذهِ التَّحدِّيات، مُنفَصلة أو مُجتَمعة، نَجِده يَهرُب “جُبنًا” مِنها إلى مِلَف التَّطبيع، والحَديث عَن إنجازات واختِراقات لتَحويل الأنظار، وتَضليل الرأي العام الإسرائيليّ، مِثل الإعلان عَن مُوافَقة سَلطنة عُمان السَّماح لطائِرات “العال” الإسرائيليّة بعُبور الأجواء العُمانيّة في طَريقِها إلى الهند، وقال في لقاء مع سُفراء إسرائيل في دول آسيا وأوروبا وأمريكا الشماليّة في مقر وزارة الخارجيّة اليوم، وننقل حَرفيًّا، “وافق السلطان قابوس على السماح للطائرات الإسرائيليّة التجاريّة السفر عبر الأجواء العُمانيّة”، وكَشَفَ في اللِّقاء نفسه “أنّ شركات الطيران الإسرائيليّة ستتمكّن مِن التَّحليق في أجواء السُّودان في طَريقِها إلى أمريكا الجنوبيّة، في إطارِ مَساعٍ لتحسين العِلاقات مع الدول المُسلِمة وعَزْل إيران”.
وكان أخطَر ما ورد على لِسان نِتنياهو في هذا اللقاء تأكيده على تهميش القضيّة الفلسطينيّة كُلِّيًّا، وتَجاوُزِها للوصول إلى التَّطبيع مع الدول العربيّة وقوله “لن نترك السّلام مع العالم العربيّ رهينةً للسّلام مع الفِلسطينيين”، وكشف عَن تأكيد زُعَماء عرب التَقاهم قولهم “لدينا مصالح أمنيّة واقتصاديّة ونُريد أن نتَمتَّع بثِمار التَّقَدُّم، ومِن الآن وصاعِدًا لن نَضَع تطبيعنا مَع دولة إسرائيل رَهينَةً بيَد نَزَوات الفِلسطينيين”.
***
تحليق طائرات “العال” في الأجواء العُمانيّة لا يُمكِن أن يتم إلا بعد التَّوصُّل إلى اتّفاقٍ مُماثِلٍ مع المملكة العربيّة السعوديّة، واعترف نتنياهو أن المُحادثات لم تُحَقِّق التَّقدُّم المَطلوب حتّى الآن، ونأمَل أن لا تَكون هُناك مُحادثات أصْلًا حتّى تتقدَّم، أمّا عُبورها الأجواء السودانيّة فمَا زالَ “لُغزًا”، لأنّه لم يَصدُر أي نَفِي أو تأكيد سوداني حولَ هَذهِ المَسألة حتّى كِتابَة هَذهِ السُّطور، ولكنّ الصَّمت السودانيّ الرسميّ قد يكون دليل المُوافقة، أو هكذا نعتقد، فهُناك لوبي سوداني يعتقد أنّ الخُروج مِن قائِمة “الإرهاب” الأمريكيّة لا يُمكِن أن يَمُر إلا عبر البوّابة الإسرائيليّة باعتِبارها الطَّريق الأقصَر، بعد فَشَل كُل البوّابات الأُخرى مِثل التَّقارُب مع السعوديّة على حِساب تصعيد العَداء مَع إيران، ومُشارَكة التحالف السعوديّ الإماراتيّ في حرب اليمن، عُبور الطائرات السودانيّة لن يَحُل أزَمات السودان الاقتصاديّة والأمنيّة، وإنّما القَضاء على الفَساد والمَحسوبيّة، وغِياب تَداوُل السُّلطَة والمُحاسَبة.
أمرٌ مُؤسِفٌ أن تقع حُكومات عربيّة في مِصيَدة التطبيع التي نَصَبها نِتنياهو ومجّانًا دُونَ مُقابِل، والتَّخَلِّي عن قضيّة عربيّة وإسلاميّة عادِلَة وضرب عَرض الحائِط بمُبادَرة سلام عربيّة هِي التي روّجت لها، وفرَضتها على كُل القِمم العربيّة مُنذ قمّة بيروت عام 2002، فمَا هِي الثِّمار الأمنيّة والتكنولوجيّة التي تَملُكها إسرائيل، ولا تَملُكها الولايات المتحدة وروسيا والصين حتى تُهَروِل هَذهِ الحُكومات زاحِفةً إلى تل أبيب، أو فارِشةً السجّاد الأحمَر لنِتنياهو ووزرائِه وفِرَقِه الرياضيّة في عَواصِمْها؟
هذا التَّطبيع مع نِتنياهو المُلطَّخة أياديه بدِماء أطفال قِطاع غزّة، والمَدنيين السوريّين العُزّل الذين استَشهدوا بصواريخ طائِراته، لن يَحميهِم مِن إيران “الفزّاعة”، أو “الطُّعم” الذي يَستَخدِمها الإسرائيليّون وحُلفاؤهم الأمريكان لبَثْ الذُّعر والخَوف في قُلوبِهم، بَل رُبّما يُعطِي نتائِج عكسيّة تمامًا، طالَما أنّنا نتحدَّث عَن حَربِ عِلاقات عامّة، فالشَّعب الفِلسطينيّ لن يَستسلِم أوّلًا، ومعه مُعظَم الشُّعوب العربيّة، بِما في ذلِك الغالبيّة العُظمَى لدول الخليج التي تُعارِض هذا التَّطبيع وتُقاوِمه، وتعتبر إسرائيل عَدُوًّا أبَدِيًّا للعَرب والمُسلِمين.
التَّطبيع العربيّ مع إسرائيل هو الهَديّة الأغْلى التي تُقدِّمها الحُكومات إلى إيران، ومِحوَر المُقاومة، خاصَّةً في هذا الوَقت الذي تعيش فيه هذه الدولة المارِقَة حالةً مِن الارتِباك والخَوف غير مَسبوقة، وتتراجَع فيه قُوّة الهيمَنة الأمريكيّة في ظِل صُعود قِوىً عُظمَى جديدة مِثل الصين وروسيا وقريبًا الهند ودُوَل “البريكس” عُمومًا، وتَعاظُم فَضائِح رَئيسِها دونالد ترامب.
***
هُروب نِتنياهو إلى التَّطبيع مع دول عربيّة وخليجيّة لن يُحَوِّل الأنظار عَن أزماتِه الداخليّة أو الخارجيّة، ولكنّه سيَنقُل هَذهِ الأزَمَات، بشَكلٍ أو بآخَر، إلى أصدقائِه العَرب الجُدُد، خاصَّةً في ظِل الحِراك الشعبيّ الذي يَجْتاحُ العالم حاليًّا، وشاهَدناه في أوضَحِ صُوَرِه في الأُردن وفرنسا، ويَعلَم الله أينَ سيَكون مَيدانَهُ المُقبِل، وهو تسونامي آتٍ لا مَحالة.
نُبَشِّر المُطَبِّعين العَرب بأنّ نِتنياهو صَديقهم الجَديد الحَميم لن يُعَمِّر طَويلًا في السُّلطة رُغمَ حركاته البَهلوانيّة، ومِحوَر المُقاوَمة لن يَستسلِم، ومسرحيّة كشف أنفاق بطُول 40 مِتْرًا تحت الحُدود اللبنانيّة “الإسرائيليّة” لن تَخْدَع أحَدًا، فصَواريخ المُقاوَمة التي تَزدادُ دِقّةً وفاعليّةً ستَكون هِي الرَّد الحاسِم، وهِي التي سَتُدمِي أنفَ نِتنياهو، وكُل مَن يُراهِن عَليه.. طَبِّعوا كيْفَمَا شِئْتُم واستَقبِلوا الطائرات الإسرائيليّة بالغِناء والرَّقْص.. فهَذهِ مَرحَلةٌ قَصيرةٌ عابِرةٌ.. والأيّام بَيْنَنَا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/12/10