ماذا يعني احتفال المُقاومة بالذّكرى 14 للانتِصار في حرب تمّوز في ظِل الأوضاع الحاليّة المُتوتّرة في لبنان؟
عبد الباري عطوان
باختصارٍ شديدٍ، يُمكن الجزم، ودون أيّ تردّد، بأنّ كُل ما يجري حاليًّا من تطوّراتٍ على الأرض اللبنانيّة هو نِتاجٍ، مُباشر، أو غير مُباشر، لانتصار حرب تمّوز (يوليو) الذي يُصادف غدًا الجمعة الذّكرى الـ 14 له، وهو الانتصار الذي غيّر كُل المُعادلات، ليس في لبنان، وإنّما أيضًا في مِنطقة الشّرق الأوسط برمّتها، وأسّس لأمرين مُهمّين: الأوّل صُعود نجم مُقاومة إسلاميّة قويّة ومُختلفة وُلِدَت مِن رَحِمِ المُعاناة والتّهميش وليس من رَحِم النّخبة الفاسدة التقليديّة، والثّاني هزيمة الجيش الإسرائيلي، وإنهاء غطرسته، وقُدرته على حسم الحُروب لصالحه، بالسّرعة والقُدرة المُعتادة سابقًا.
أهميّة “حزب الله” وخُطورته في نظر القَوى الإقليميّة والعالميّة، أنّه عابرٌ للحُدود، وجُزءٌ من محورٍ قويّ، ويَستعصِي على الانقسامات والاختِراقات الأمنيّة، والأكثر من ذلك أنّ قِيادته تستطيع اتّخاذ قرار الحرب، وإدارة الأزمات الداخليّة، والإقليميّة، بكفاءةٍ عاليةٍ، ومِن خلال عمل مؤسّساتي مُتقدّم جدًّا، وبُنوك عُقول تعمل بصَمتٍ بعيدًا عن الأضواء.
المسألة ليس مسألة امتلاك سلاح، فهُناك حُكومات ودول عربيّة أنفقت مِئات المِليارات لشِراء طائرات ومَعدّات عسكريّة حديثة من الغرب، ولم تكسب حربًا واحدةً، المسألة مسألة امتِلاك الإرادة، وكيفيّة استِخدام هذا السّلاح وبِما يُؤدّي في النّهاية إلى النّصر، وحرب تمّوز جسّدت كُل هذه الاعتِبارات.
لا يُمكن أن ننسى نحن الذين تابعنا، والملايين مثلنا، فُصول هذه الحرب مُنذ البداية وحتى النّهاية، السيّد حسن نصر الله وهو يقول لنا، وللأمّة بأسْرِها “انظروا إلى هذه الفرقاطة الإسرائيليّة المُرابطة قُبالة السّاحل البيروتيّ، حَملِقوا بها جيّدًا، الآن سيتم تدميرها بأحد الصّواريخ المُقاومة”، وهذا ما حدَث بالفِعل، ومُنذ ذلك التّاريخ لم تجرؤ سفينة حربيّة إسرائيليّة على اختِراق المِياه الإقليميّة اللبنانيّة.
***
تشرّفت شخصيًّا بالمُشاركة في احتفال بالذكرى العاشرة للانتصار في هذه الحرب أُقيم في بلدة “مليتا” بجنوب لبنان، وكنت وعدد محدود من الضّيوف في معيّة المُجاهدة الجزائريّة الأيقونة جميلة بوحيرد، وفي ضيافة قادة وسياسيين ونوّاب من “حزب الله”، وكم كانت سعادتنا لا تُوصَف، ونحن نتجوّل في المتحف الذي يُؤرّخ عمليًّا لهذا الانتصار ويُوثّقه بعرض آليّات العدو المُدمّرة، وخاصّةً دبّابة “ميركافا” فخر الصّناعة العسكريّة الإسرائيليّة التي انزوَت ذليلةً مُهانةً في أحد الزّوايا، مجدوعة الأنف (المدفع)، ومبقورة الباطِن بفِعل صواريخ رجال المُقاومة.
جميع الضّغوط السياسيّة والعسكريّة والتفجيريّة التي تشهدها السّاحة اللبنانيّة حاليًّا، تَصُبّ في هدفٍ واحدٍ، وهو خلق حالة من الفوضى، والفراغ الدستوريّ، ولإدخال لبنان في غرفة العناية المُركّزة، وتأليب اللّبنانيين ضدّ المُقاومة، وتحريضهم على نزع سِلاحها، أو إشغالها وسِلاحها في حربٍ أهليّةٍ لبنانيّة.
“إسرائيل” هي رأس حربة في هذا المُؤامرة التي تدعمها أمريكا، ودول عربيّة ويتورّط فيها طابورٌ خامسٌ لبنانيّ، وشهادة الحق التي أُريد بها باطل وهي الإصلاح، واجتِثاث النّخبة الحاكمة الفاسدة التي نهبَت عرَق الفُقراء والمَحرومين مُنذ توقيع اتّفاق الطّائف عام 1989.
مِن المُؤكّد أنّ السيّد نصر الله لديه الكثير ممّا يُمكن أن يقوله في خِطابه في هذه المُناسبة التاريخيّة، وسيُعرّج حتمًا على تطوّرات الأوضاع الداخليّة والعربيّة، ولو كُنت من المُكلّفين بوضع النّقاط الرئيسيّة في هذا الخِطاب، لضمّنتها نقدًا ذاتيًّا، لتقديم الكثير مِن المُرونة، وحتّى التّنازلات، لهذه النّخبة الفاسدة ومُسايَرتها أكثر من اللّازم من أجل هدفٍ عظيمٍ وهو الحِفاظ على أمن لبنان واستِقراره، ولُقمة عيش الملايين من أبنائه.
مِن المُؤسف، ونقولها دون مُواربة، أنّ هذه “المُرونة” التي أُسيء فهمها تأتي من مُنطلقِ القوّة والكِبر، والحِرص على لبنان، كُل لبنان وكل شعبه، وأمنه واستِقراره وسِيادته وكرامته الوطنيّة، ولكنّ الطّرف المُتآمر لم يرَها كذلك، ولا بُدّ من تذكيره بقوّةٍ وبصراحةٍ بعواقبِ هذا الخطَأ.
“حزب الله” أقوى اليوم أكثر عشرين مرّةً ممّا كان عليه يوم خاض حرب تمّوز، وبات يملك قوّة ردع تضم 150 ألف صاروخ ومئات الطائرات المُسيّرة، وخُبرات قتاليّة ميدانيّة عاليةً جدًّا، ولولاه لما تحرّر الجنوب اللبناني ولسَرقَت دولة الاحتلال الإسرائيلي مُعظم، إن لم يَكُن كُل ثرواته النفطيّة، والغازيّة في البحر المتوسّط، أيّ أنّ موازين القِوى تختلف كثيرًا عمّا كان عليه الحال عام 2005.
***
نَحسِد المُقاومة وقِيادتها على سعة صدرها وضبطها لأعصابها في مُواجهة هذه الحملة الخارجة عن كُل أُصول أدب الحِوار الأخلاقيّ والديمقراطيّ، ومُواصلة كُل أشكال التّطاول والاتّهامات وحملات الاستفزاز في إطار حرب نفسيّة تَقِف خلفها جهات أجنبيّة، وتتّخذ مِن بعض السّفارات الأجنبيّة، والأمريكيّة خاصّةً، مَركزًا لغُرفها السّوداء.
جميع هذه المُؤامرات والضّغوط لنزع سِلاح المُقاومة ستفشل، لأنّ هذا السّلاح بات عُنوان الكرامة والسّيادة والشّرف، ومن يَصمُد في حرب لمُدّة 33 يومًا في وجه رابع أقوى جيش في العالم (الإسرائيلي) لن يرضخ، ويتنازل عن سِلاحه، وإذا كان السيّد علي خامنئي قال للرئيس بشار الأسد لا تخف طالما إنّ إسرائيل بجِوارك، نُكرّر الشّيء نفسه للسيّد نصر الله.. والقصد واضِحٌ ولا يحتاج إلى شرح.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2020/08/14