إما التطبيع أو إما التطبيع…!
سعاده مصطفى أرشيد
إما الضمّ، أو إما التطبيع، كان هذا عنوان المقال الذي نشره يوسف العتيبي السفير الإماراتي في واشنطن في صحيفة «يديعوت احرونوت» العبرية في حزيران الماضي. مثّل المقال رأس جبل الجليد الذي ما لبث أن ظهر بكامل هيئته منذ أيام حاملاً اسم مشروع أبراهام، وهو الاسم الذي أطلق على معاهدة السلام الإماراتية – «الإسرائيلية».
لم يكن ذلك الإعلان مفاجأة من أيّ عيار، فعلاقات تل أبيب مع أبو ظبي وغيرها من بعض عواصم العرب لم تعد سراً يُخفى على أحد، خاصة تلك العواصم التي ارتبط أصحاب السمو والفخامة فيها بالإدارة الأميركية، أكثر من ارتباطهم بمصالح شعوبهم وبلدانهم، وهم أمام ضرورات البقاء السياسي مضطرون لمقايضة المصالح العليا للأمة بالدعم الأميركي لهم، بالطبع مع معرفتهم اليقينية أنّ طريقاً واحداً فقط يوصل إلى واشنطن ويمرّ عبر تل أبيب .
مرّر ولي عهد الإمارات تغريدة عابرة في «تويتر» قال فيها إنّ الاتفاق قد ألغى عملية ضمّ 33% من أراضي الضفة الغربية لـ «إسرائيل»، في حين أنّ نتنياهو ملتزم بما أتى في النص الذي ورد في وكالات الأنباء والذي يتحدث عن تجميد الضمّ لا إلغاءه، وهو لا يكاد يتوقف عن إطلاق التصريحات اليوميّة التي يمكن إيجازها: أنّ الاتفاق هو السلام مقابل السلام فقط ومن موقع القوة الإسرائيلية، وأن هذا السلام لا ينص أو يشمل التنازل عن ذرة تراب واحدة، وأن عملية الضمّ وإنْ تأجلت فإنها ستنفذ باعتبارها حقاً شرعياً وقانونياً وتاريخياً لدولتهم، ثم أنها تمثل ضرورة أمنية واستراتيجية في العقيدة العسكرية لجيشهم وأخيراً باعتبارها مسألة وردت بالنص في الخطة الأميركية والرؤية الترامبية المعروفة باسم صفقة القرن.
ما ورد في اتفاق أبراهام لا يشبه اتفاقيات السلام المعروفة، بقدر ما يشبه الأحلاف العسكرية والاستراتيجية، فالبلدان – حسب ما ورد في النص – يملكان رؤية مشتركة للتحديات التي تواجههما والتي لا بدّ لهما أن يقفا لمواجهتها بشكل مشترك، وكلاهما مؤمن بضرورة التنسيق الأمني الوثيق والتكامل الاقتصادي، ومن ثم توقيع اتفاقيات عسكرية وسياحية وبيئية وتكنولوجية واتصالاتيّة… وأخيراً يتفق الطرفان على «الحلّ العادل» للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني كما ورد في رؤية ترامب (صفقة القرن)
جاء الاتفاق يمثل صفقة رابحة لنتنياهو هو في أمسّ الحاجة إليها، وهدية ثمينة لدونالد ترامب في وقتها المناسب، نتنياهو عزز بهذا الاتفاق من وضعه الداخلي أمام شركائه في الائتلاف الحكومي غانتس واشكنازي، وسيكون أقلّ اهتماماً وانزعاجاً من المتظاهرين الذين يتواجدون أمام منزله مطالبيه بالاستقالة على خلفية شبهات الفساد المنظورة قضائياً، ثم أنّ الاتفاق قد يسهم في معالجة الوضع الاقتصادي المتردّي ووفق ما تذكر النشرات الاقتصادية أنّ حجم خسائر الاقتصاد الإسرائيلي قد تجاوز 21 مليار دولار بسبب جائحة كورونا. أما هدية ترامب الثمينة فهي الأولى من سلسلة هدايا ستتلاحق عندما تنضمّ عواصم أخرى لركب المعاهدات وفي وقت يسبق موعد الاستحقاق الانتخابي في تشرين الثاني المقبل، سيتعامل ترامب مع اتفاق أبراهام بصفته إنجازاً عظيماً لإدارته التي فشلت في معالجة ملفات إيران والعراق وسورية، وأخفقت في وقف تمدّد روسيا الأوراسي، وعجزت عن التصدي ووقف التمدد الناعم والدؤوب للصين في ملء أي فراغ ينشأ عبر العالم، أما على الصعيد الداخلي، فالمجتمع الأميركي تعصف به رياح العنصرية التي شاهدها العالم عند مصرع المواطن الأسود جورج فلويد، البطالة ترتفع معدلاتها، إصابات كورونا تحطم أرقاماً قياسية فيما نظم الرعاية الصحية والاجتماعية تعاني من الضعف الشديد، لهذا كانت الهدية ثمينة وبوقتها، إذ قد يستطيع تحويل هذا الإنجاز إلى أصوات في صندوق الانتخابات من أجل إعادة انتخابه لدورة رئاسية ثانية .
الفوضى العارمة التي اجتاحت العالم العربيّ ولا تزال كان لها دور في التحضير لاتفاق أبراهام وإنجازه، من ليبيا بالغرب مروراً بوادي النيل وبلاد الشام وانتهاء باليمن أصبحت ساحات مستباحة، جعلت من دور بلد مثل الإمارات وولي عهدها يلعبون أدواراً تتجاوز أحجامهم الحقيقية، ممارسة دور وكيل الشيطان في زرع الموت والحرائق وبالطبع بالاشتراك مع محمد بن سلمان، يحدوهم في ذلك غريزة البقاء السياسي التي تستلزم طاعة الإدارة الأميركية. فمصادر شرعيتهم وبقائهم لا ترتبط بالعملية الديمقراطية وصناديق الانتخاب، ولا تعتمد على دعم شعوبهم ودفاعهم عن مصالح بلادهم العليا وأمنها القومي، لذلك فهم يقدّمون للإدارة الأميركية أيّ شيء يلزمها في صراعها مع الديمقراطيين، ومن ذلك اتفاق أبراهام .
يتوارث الإدارة الأميركية كلّ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ومن مشاكل حكامنا مؤخراً أنهم لم يعودوا يرتبطون بالإدارة الأميركية كمؤسسة حاكمة ودولة عميقة، وإنما انقسمت طبقة أصحاب الجلالة والسيادة والسمو إلى فسطاطين، فسطاط الجمهوريين، الذي يتربع على حشاياه ووسائده محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ومعهما السيسي والبرهان، في حين يجلس على أطرافه عبد ربه منصور هادي والماريشال خليفة حفتر، وهم من أصبح مؤكداً أنّ مصيرهم رهن بترامب وعودته لرئاسة ثانية، وأن خسارته تعني خسرانهم وربما فناءهم، فيما يجلس منتظراً بالفسطاط الديمقراطي الخاسرون حالياً والطامحون باسترداد مواقعهم في حال فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن، ومن هؤلاء ولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف وتميم شيخ قطر والأتراك، فيما تنظر طهران من بعيد بأمل نجاح بايدن، لما قد يعود بانفراج في العقوبات وعودة للعمل بالاتفاق النووي.
من ضرورات السياسة محاولة قراءة المقاربة الإماراتية للعلاقة الفلسطينية – الإسرائيلية وربطها بمشروع أبراهام، ثم قراءة الموقف الفلسطيني المتوجّس شراً من الإمارات ومشروعها ومقاربتها .
ربما كانت المقدّمات الأقدم لكلّ من المعاهدات المصرية والأردنية والإماراتية ومعها اتفاق أوسلو تعود في جذورها لعام 1974 وبرنامج النقاط العشر الذي طرحته القيادة الفلسطينية ومثل طلب انتساب لعضوية النظام العربي الذي استجاب وقبل الطلب في مؤتمر الرباط، حيث أجمع المؤتمرون باستثناء الأردن على اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وحاول العرب بعدها دفع منظمة التحرير بخطوة إلى الأمام (وربما إلى الخلف) بإدخالها في النظام الدولي وترتيب إلقاء عرفات خطابه في الجمعية العامة، ولكن متطلبات النظام الدولي كانت أكبر مما تستطيع المنظمة الاستجابة له في حينه، وبناء على ذلك أصبح الهدف الفلسطيني هو إقامة سلطة على أرض فلسطين ولم يعد شعار التحرير لكلّ فلسطين مطروحاً في العمل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني، حيث جرت في وديان السياسة مياه ودماء بعد ذلك، أدّت إلى خروج منظمات العمل الفدائي من لبنان، ورحيلها إلى تونس البعيدة، فلم تعد المواجهة مباشرة مع الإسرائيلي، إلى أن تفجرت الانتفاضة الأولى، ثم انهار النظام العربي اثر الحرب العراقية العالمية وتبعه سقوط جدار برلين وانهيار النظام العالمي، قادت كلّ تلك المقدمات إلى اتفاق أوسلو، وما تبعه من انهيارات أصابت المشروع الوطني الفلسطيني في صميمه، بعد أن تحوّلت الثورة إلى سلطة وكيلة للاحتلال بموجب الاتفاق المذكور، ترى التنسيق الأمني مقدساً، وتقدّم لـ «إسرائيل» من المعلومات ما لم تكن تحلم بالحصول عليه (حسب الكلام الرسمي الفلسطيني في آخر قمة عربية)، وكأننا نقرأ إحدى روايات غابرييل غارسيا ماركيز .
تراجع الأداء الفلسطيني وفقدت القيادة روح المبادرة والديناميكية، وجلست في غرفة انتظار ما قد تأتي به انتخابات الرئاسة في واشنطن، أو ما قد تحصل عليه القائمة العربية في انتخابات الكنيست، فيما الاستيطان يلتهم الأرض، وعقارات القدس تتسرّب للجمعيات الاستيطانية المتطرفة، وباقي قضايا الحلّ النهائي معلقة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ترامب قدّم الغطاء لضمّ القدس وألحقه بغطاء أشمل وهو صفقة القرن التي أسقطت حق العودة وتفكيك الاستيطان وجعلت من الدولة حلماً بعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً، وتركز عمل السلطة مؤخراً وبرنامجها على وقف عملية الضمّ .
مقاربة محمد بن زايد ترى أنّ السلطة الفلسطينية كانت تنتظر البدء في التفاوض حول قضايا الحلّ النهائي منذ أكثر من عقدين، لكن العالم الدائم الحركة فرض على الأرض وقائع من الصعب تجاوزها وأنّ السلطة قد سلمت بهذه الحقائق المفروضة، ثم أنّ حراكها السياسي لم يتعدّ مؤخراً العمل على إلغاء الضمّ وهو الأمر الذي يزعم ابن زايد أنه قد فعله حسب ما ذكر في تغريدته
السلطة الفلسطينية في رام الله ترى أنّ ابن زايد قد تجاوزها بالتحدث باسم الفلسطينيين، وأنّ في ذلك تجاوزاً لها ولشرعيتها، وهي تستبطن الشكوك في السلوك الإماراتي قبل اتفاق أبراهام وبعده بسبب ما يتردّد عن العلاقة الحميمة التي تربط القيادي السابق في فتح مع أبناء الشيخ زايد، وما أشيع مؤخراً أن ملاحق اتفاق أبراهام تنص على دور رئيس سوف يلعبه دحلان في الساحة الفلسطينية.
الخلاصة انّ الهاجس المشترك في عالمنا العربي هو هاجس البقاء السياسي وضروراته…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/08/20