الدولة… ترامب… عرب ترامب
سعاده مصطفى أرشيد
الدولة هي المؤسسة الرئيسة والأكبر، وهي ليست مؤسسة سياسية تنفيذية فحسب، بقدر ما هي شاملة كلّ شؤون الحياة، بأذرعها: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبما يتفاعل وينشط بالمجتمع وفيه من أحزاب ونقابات ونوادٍ وجماعات ضغط منظمة. الدولة تقود كلّ تلك المنظومات وتؤثر وتتأثر بها، وهي إذ تقود الجماعة البشرية (المجتمع)، فهي من يسنّ له القوانين وتضع النظم والسياسات وتنفذها، وتقرّر أنماط السلوك، وتفصل بين المتخاصمين، وتحمي الأرض والحدود، وتصون المصالح العليا والأمن القومي، وتحرس الثقافة والقيم.
يمثل النمط الغربي للدولة النموذج الأطول عمراً والأكثر صموداً أمام عاديات الزمن، لما فيه من مرونة (أو ميوعة) وعلى ما به من مثالب وعورات، تسير منظومات العمل بتناغم، تنسجم وتتصارع وفق قواعد يعرفها الفرقاء ولكن تحت سقف الدولة، والفرقاء بدورهم قد يختلفون بالجزئيات، إلا أنهم متوافقون على عقد اجتماعي – سياسي – اقتصادي، يهدف إلى خدمة الدولة باعتبارها المشروع العموميّ – وإن كان في الحقيقة مشروع الأقوياء اقتصاداً وإدراكاً، من أصحاب بيوت المال وأرباب الصناعة والموظفين العاملين بخدمتهم. هذه التجمعات هي التي تمثل عقل الدولة وهي ما يمكن أن يطلق عليها اسم الدولة العميقة التي تحدد الاستراتيجيات وتضع أسس الأمن القومي، وتعيد صياغة الثقافة ومنظومة القيم، وكذلك العادات والسلوك، إنها الدولة الحقيقية والسلطة التي رأى فيها المفكر الاسكتلندي توماس هوبز وحشاً ضارياً.
الولايات المتحدة الأميركية تمثل في العالم الذي عاصرناه النموذج الأمثل والأقوى للدولة الغربية، والوحش الضاري الذي تحدّث عنه هوبز والمتمثل بالدولة الأميركية العميقة المكونة من رجال المصارف والصناعات مدنية وعسكرية، ومنتجي النفط ومحتكريه، وصنّاع البرمجيات والرقائق الإلكترونية، ومروّجي السياحة بأشكالها والقمار والمخدرات، وشركات الأمن، المكوّنة من المرتزقة من ذوي الخبرات والقدرات العالية.
هذه الدولة العميقة ساهرة دائماً ولا تأخذها سنّة ولا نوم، وقد يختلف التشريعيون والتنفيذيون في الأداء وأحياناً في الأولويات أو بعضها، إلا أن التقليد السياسي الأميركى يقضي بانتخاب أحد نوعين من الرؤساء (التنفيذيين) أو الشيوخ والنواب (التشريعيين)، فقد يكون حماراً ديمقراطياً صبوراً، وقد يكون فيلاً جمهورياً ثقيل الخطى، فهؤلاء جميعاً من إنتاج المؤسسة ذاتها، وفي حالة الرئيس فقد يكون في بعض الحالات موظفاً لدى الدولة العميقة وقناعاً لها، ولكن تبقى هي الحاكم، ومن أمثال هؤلاء الرؤساء، جيرالد فورد ورونالد ريغان، وقد يكون الرئيس صاحب رؤية وشخصيّة نافذة وقوية، فيتصدّر الدولة العميقة ويقودها ويحكم بالشراكة معها ومن هؤلاء بيل كلينتون وبوش الأب.
الرئيس يمثل من الناحية النظرية الثقافة الأميركية، وهي القائمة على المبادرة وإتاحة الفرص – دعه يعمل… دعه يمر – فالولايات المتحدة تعطي مواطنيها والمهاجرين إليها الفرص لمراكمة وتحقيق الثروات، وهي ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ونصيرة الأمم الضعيفة التي تتوق للديمقراطية والتخلص من الأنظمة الاشتراكية والشمولية التي تحول دون المبادرة الفردية، وتعلمهم ثقافة الحرية وفق النموذج الأميركي، كيف لا وهي زعيمة العالم الحر؟ ولكن الناحية العملية والتجربة الحية تختلف عن ذلك كثيراً، فثقافتهم ليست الا ثقافة الغزو والقتل، التي مارسها الآباء الأوائل من المهزومين والرعاع والجياع والمضطهدين دينياً، الذين اضطروا للهجرة لهذه الأرض الجديدة فلم يجدوا بها إلا غابات فاقتلعوها ومستنقعات قاموا بتجفيفها، ووحوش قتلوها، ثم برابرة من جنس بشريّ منحطّ، حاولوا تمدينهم وتنصيرهم وتعليمهم حضارة الرجل الأبيض ولكنهم أبوا ذلك فقاموا بإبادتهم أو كادوا، هكذا هي حضارة 500 عام من التفوق الأبيض الذي تأثر بالعهد القديم ليجد في هذه الأرض الجديدة أرض ميعاد جديد، لدرجة أن بعضاً منهم رغب بإطلاق أسماء توراتية عليها مثل مملكة يهودا أو إسرائيل، فيما اقترح آخرون اعتماد اللغة العبرية كلغة رسمية لعالمهم.
يرى الأميركي الأبيض أنّ تجربته هذه لا يوجد لها إلا مثيل واحد، وهي التجربة اليهودية – الصهيونية القائمة اليوم على أرض فلسطين، فكما هاجر أجدادهم هرباً من الفقر والجوع والاضطهاد الديني إلى أرض خالية بكر إلا من بعض البرابرة ذوي العرق المنحط والثقافة غير القابلة للتطور، كذلك عاد اليهود إلى أرض آبائهم الخالية من السكان باستثناء بعض البرابرة البدو الذين تجذر في سلوكهم وعقولهم الاستبداد وعقلية الخراب وامتهان السرقة ورفض قيم الحضارة الغربية البيضاء، قام العائدون اليهود بإعمار البلاد وتطويرها وأقاموا بها مجتمعاً متقدماً، واقتصاداً مزدهراً، ودولة مثلت جزيرة للحرية والديمقراطية وسط محيط متلاطم الأمواج من الاستبداد والتخلف الشرقي، ولا بأس إنْ قاموا ببعض أعمال الإبادة العرقية أو التهجير القسري لمن لا يستطيع استيعاب قيمهم أو التنعم بنعمها.
إذا كان التحالف الغربي – الإسرائيلي قائماً على أساس الدور الوظيفي لـ»إسرائيل»، وذلك بان تكون قاعدة عسكرية وأمنية متقدمة للغرب وقلعة مسلحة وحارسة تقف على تخوم المصالح الغربية في الشرق، وعاملاً من عوامل القلق وعدم الاستقرار في المنطقة، ليحول دون وحدتها واستنهاض طاقاتها، فإن العلاقة الأميركية – الإسرائيلية، قد تجاوزت ذلك بإعطائها بعداً دينياً وعاطفياً تكرّسه الكنائس المتجددة الإنجيلية، وإرثاً مشتركاً وتجربة متشابهة، إنْ في التاريخ أو في الحاضر العدواني لكلتا الدولتين، وانْ في الأداء الداخلي حيث تسيطر في الولايات المتحدة الجماعات ذات الأصول الأنجلو – سكسونية والألمانية على مفاصل السياسة والاقتصاد، مع تهميش باقي مواطنيهم من أهل البلاد الأصليين إلى ذوي الأصل الأفريقي الأسود وغيرهم من الأقليات، ونرى في «إسرائيل» سيطرة الأشكيناز على باقي السكان بما فيهم إخوانهم في الدين (وحسب ادّعائهم في العرق أيضاً) السفارديين ذوي الأصول الشرقية.
لكن السياسة أمر دائم الحركة والتغيّر، وشاهدُنا على ذلك الرئيس الأميركي الحالي ترامب، الذي مثل نوعاً من الرؤساء خارجاً عن مألوف أسلافه، يفاجئ الجميع بتصريحاته، يربك إدارته والدولة العميقة على حدّ سواء، إنه دائم الارتجال، لم يحقق إنجازات على الصعيد السياسي لا في داخل الولايات المتحدة ولا عبر العالم، دفعت سياساته الاقتصاد الى التراجع والركود، وتهلهلت مؤسّسات ونظم الرعاية الصحية والاجتماعية بشكل ملحوظ كان له أثر مضاعف إثر جائحة كورونا، وتوتّرت العلاقات البينية الداخلية، كما حصل في حادث مصرع المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد، واقتصرت إنجازات ترامب على ما حققه بعلاقاته العربية ومع قادة عرب، لا مع دولهم، هكذا تقرأ علاقته بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كما مع محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ومن لفّ لفّهم، وضع ترامب قواعد العلاقة معهم مبكراً وبعيد دخوله للبيت الأبيض، حيث صرّح بصلف ووقاحة وبطريقة لم يسبقه إليها رئيس أميركي، أن هؤلاء لم يكن بإمكانهم البقاء لولا الدعم الأميركي، وأنّ بقاءهم مرتبط باستمرار هذا الدعم وليس بشرعياتهم الزائفة وقدراتهم الهزيلة، بالتالي عليهم الإذعان والطاعة، فهم أتباع لا شركاء أو حلفاء، عليهم الدفع إثر كلّ مكالمة هاتفية، وعليهم توقيع العقود والتلاعب بأسعار سلعتهم النفطية بما يعود بالخسارة عليهم والربح لغيرهم، وأيّ خروج عن ذلك يعني خروجهم من جنة واشنطن، ومن قصورهم وربما من بلادهم، وهو لا يشكرهم على ذلك بقدر ما يمعن في السخرية والهزء العلني منهم، وعلى ما يظهر من سلوك هؤلاء أنهم غير منزعجين من ذلك الصلف، وإنما يأخذون كل ما سبق بجدية، لذلك يستثمرون بأموالهم وسياساتهم وتطبيعهم لإنجاح مَن يدعم بقاءهم وعلى حساب كلّ شيء.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/09/24