العقوبات الأميركية على باسيل تفضح حقيقة السياسة الأميركية تجاه لبنان
حسن حردان
القرار الأميركي باستهداف التيار الوطني الحر اتخذ منذ إقدام واشنطن على فرض الحصار المالي على لبنان، الذي أسهم في زيادة حدة الأزمة وتفجرها في الشارع في ١٧ تشرين الأول عام 2019 في سياق خطة أميركية وضعها السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، وعرضها أمام لجنة فرعية لشؤون الشرق الأدنى في الكونغرس الأميركي، وتحوّلت إلى أجندة أميركية معتمدة لاستغلال الاحتجاجات وركوب موجتها لتنفيذ انقلاب سياسي على المعادلة السياسية، انقلاب يقضي بإقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة التنفيذية، وتشكيل حكومة اختصاصيين أميركية الهوى تتولى إجراء انتخابات مبكرة لإعادة تشكيل السلطة، التي تقوم بتنفيذ أجندة واشنطن لإخضاع لبنان لشروط صندوق النقد الدولي، وفرض خطة السفير فريدريك هوف لتحديد الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة تمكن كيان العدو من الاستيلاء على مساحة هامة من مياه لبنان الإقليمية الغنية بالغاز الطبيعي.. وصولاً إلى محاصرة حزب الله المقاوم، وإعادة طرح نزع سلاح المقاومة وخصوصاً الصواريخ الدقيقة التي تقلق العدو الصهيوني، لأنها تردع عدوانيته وأطماعه في لبنان.. والقبول بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتصفية حقوقهم الوطنية وفي الطليعة حق العودة، وإبقاء النازحين السوريين في لبنان للضغط على سورية…
النقطة الجوهرية في خطة فيلتمان، لتحقيق هذا الانقلاب، إنما تكمن في التصويب على حلفاء حزب الله، الذين يوفرون للمقاومة الغطاء الرسمي والوطني، وتحديداً التيار الوطني الحر بشخص رئيسه النائب جبران باسيل، وطبعاً بقية حلفاء حزب الله من الأحزاب الوطنية، وفي مقدّمهم الرئيس نبيه بري رئيس حركة أمل، وتيار المردة الذين استهدفوا بالدفعة الأولى من العقوبات الإرهابية الأميركية، خلال مرحلة تكليف الرئيس مصطفى أديب لتشكيل الحكومة.. بفرض العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس…
فقد ركز فيلتمان في تقريره أمام الكونغرس بالعمل على ما يلي…
أولاً، استغلال الاحتجاجات في لبنان حيث رأى فيلتمان «أن التظاهرات الحالية تقوّض بشكل بنّاء الشراكة بين حزب الله والتيار الوطني الحر. إذ يُعدّ جبران باسيل المهندس الأكثر مسؤولية عن قدرة الحزب على التظاهر بتمثيل حركة وطنية متعددة الطوائف وتجاوز أجندته الإيرانية والطائفية الضيقة. لقد فرض هذا التحالف قشرة من الغطاء المسيحي على حزب الله، وبالتالي أصبح الأداة الرئيسية لنفوذ الحزب المتوسع داخل المؤسسات الحكومية: وبالتالي لم يعد حزب الله مقيّداً بـ»الحصة الشيعية» في النسب الطائفية اللبنانية، نظراً لأنه يمكن أن يعتمد على نصيب التيار المسيحي كذلك».
ثانياً، تصويب فيلتمان بشكل مباشر على النائب جبران باسيل بالقول: «لطالما استغلّ باسيل القلق الصادق الذي تشعر به الولايات المتحدة ودول أخرى حول وضع المسيحيين في الشرق الأوسط على وجه التحديد، ليستثمر في هذا القلق ويُبعد الأنظار عن فساده وقضية الحزب. وقد أوضحت الاحتجاجات أنّ باسيل أصبح الآن تجسيداً لكل ما يثير غضب المتظاهرين. رغم كلّ ذلك يتمسك الحزب حتى الآن بتحالفه مع التيار الوطني الحر. لكن قيمة هذا التحالف قد انخفضت إلى حدّ كبير وتزيد من خيبة الأمل العامة تجاه الحزب».
ثالثاً، لفت فيلتمان إلى أنه قد «لا يتمكّن الناخبون اللبنانيون من تجريد الحزب من ترسانته بين عشية وضحاها، لكن يمكنهم اغتنام الفرصة الانتخابية المقبلة لتجريده من الشركاء البرلمانيين الذين يستخدمهم لتأكيد إرادته السياسية».
إذن خطة فيلتمان تستهدف تحالفات حزب الله على مستوى السلطة السياسية، وبالأخص تحالفه مع التيار الوطني.. وهذا ما رأينا ترجمته من قبل قوى ١٤ آذار ومجموعات «الانجيؤز» خلال الاحتجاجات الشعبية على الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، حيث كان التركيز في شعارات هذه القوى والمجموعات على عهد الرئيس ميشال عون، ورئيس التيار الوطني جبران باسيل والرئيس نبيه بري، والضغط من أجل تشكيل حكومة تكنوقراط خالية من حزب الله وحلفائه، تحت عنوان حكومة اختصاصيين مستقلين…
والسؤال الذي يُطرح على ضوء ما تقدّم هو التالي:
لماذا جاء هذا القرار الأميركي ضدّ النائب باسيل في هذا التوقيت بالذات؟
في هذا السياق يمكن تسجيل العوامل التالية:
1 ـ وصول الإدارة الأميركية إلى مرحلة اليأس من إمكانية الرهان على إخضاع باسيل والتيار الوطني للائحة الإملاءات والشروط الأميركية التي كشف باسيل عن أنها تضمّنت أربعة شروط، ذكر واحداً منها وهو التخلي عن التحالف مع حزب الله.. أيّ أنّ واشنطن وصلت إلى طريق مسدود في محاولتها دفع رئيس التيار الوطني الى الاستسلام لطلباتها، ولم تنفع معه سياسة العصا والجزرة.. لدفعه إلى التخلي عن علاقته مع حزب الله.
2 ـ تهريب القرار قبل تسلم الإدارة الأميركية الجديدة، برئاسة الرئيس الفائز بالانتخابات جو بايدن، مقاليد الحكم، وبالتالي جعل العقوبات على باسيل أمراً واقعاً…
3 ـ إعاقة عملية تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة التي قطعت شوطاً مهمّاً، وذلك بفرض فيتو أميركي على مشاركة التيار الوطني في الحكومة أو تسمية الوزراء المسيحيين… واستطراداً الضغط لفرض حكومة يسمي وزراءها الرئيس سعد الحريري يقصى عنها حزب الله وحلفاؤه الأمر الذي عكسته المواقف الأخيرة للرئيس الحريري.. وهو ما أدّى إلى إعادة الأمور إلى نقطة الصفر…
4 ـ الضغط على رئيس الجمهورية لتليين موقفه في المفاوضات غير المباشرة لتحديد الحدود البحرية، لا سيما بعد التشدد الذي أبداه المفاوض اللبناني من خلال عرضه خريطة للحدود البحرية تؤكد انّ لبنان لديه حق بـ 1450 كلم مربع وليس فقط 850 كلم مربع، مما صدم المفاوض الإسرائيلي والراعي الأميركي…
لكن ما هي النتائج المترتبة على هذه العقوبات الأميركية، هل ستحقق أهدافها، أم أنها ستفشل في ذلك ويكون لها نتائج معاكسة في غير مصلحة السياسة الأميركية…
المدقق في النتائج الأولية للقرار الأميركي، وما سيؤول إليه، يخلص إلى ما يلي:
1 ـ القرار الأميركي أدى وسيؤدي إلى زيادة تمسك الوزير باسيل في موقفه الاستقلالي الوطني، إنْ كان لناحية رفض الانصياع للضغط الأميركي، أو لناحية تأكيد تمسكه بالتحالف مع حزب الله ودعوته إلى تطوير وثيقة التفاهم الموقعة بين الجانبين لتحصين التحالف وحمايته، أو لناحية تحرر باسيل من مرحلة الضغط التي سبقت فرض العقوبات، وشعوره الذي عبر عنه على هذا الصعيد، وقراره بمعاقبة الخونة من التيار الذين تواطؤا مع واشنطن ضد التيار…
2 ـ التفاف قواعد التيار الوطني حول باسيل وبالتالي تصليب موقف التيار في مواجهة الضغوط والتدخلات الأميركية في شؤون لبنان الداخلية.
3 ـ تعزيز العلاقة التحالفية بين التيار الوطني وحزب الله، وبقية الأحزاب والقوى الوطنية انطلاقاً من الحاجة المشتركة لهذه العلاقة في مواجهة سياسة الضغوط والعقوبات والتدخلات الأميركية..
4 ـ سيكون للقرار الأميركي انعكاسات سلبية على النفوذ الأميركي في لبنان بإضعاف هذا النفوذ على المستويين الرسمي والشعبي، لأنّ واشنطن اتخذت موقفاً عدائياً من تيار عريض له وزنه الشعبي وتمثيله النيابي الكبير وحضوره القوي في المعادلة السياسية.. وهذا يسهم في تعزيز الاتجاه الوطني الذي يرفض سياسات التبعية للولايات المتحدة، وينبّه إلى أنّ سياسة أميركا في لبنان والمنطقة عموماً إنما هي سياسة منحازة بالكامل إلى جانب السياسة «الإسرائيلية»، حتى أنّ هناك من يؤكد ويقول دائماً إنّ السياسية الخارجية الأميركية في المنطقة هي سياسة «إسرائيلية» تنفذها واشنطن.. وبالتالي فإنّ من يراهن على أنّ السياسة الأميركية في لبنان ممكن ان تكون سياسة تأخذ بالاعتبار مصالح لبنان فهو واهم.. فكلّ الأهداف التي تسعى إليها أميركا في لبنان إنما تصبّ في خدمة المصلحة الإسرائيلية، إنْ كان لناحية تحديد الحدود البحرية، أو لناحية الموقف من المقاومة التي تحمي لبنان من العدوانية والأطماع الصهيونية، أو لناحية دعم واشنطن للمخطط الإسرائيلي القاضي بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في البنان وتصفية حق العودة، أو لناحية منع عودة النازحين السوريين الي سورية…
هذه السياسة الأميركية هي التي جعلت رئيس التيار الوطني جبران باسيل على تعارض مع واشنطن، لأنها تريد منه أن يتحوّل إلى تابع لها ينفذ أجندتها على حساب مصلحة لبنان واللبنانيين، وهو ما رفضه باسيل وركز عليه في ردّه على قرار العقوبات بحقه، عندما أكد ان العمالة شيء والصداقة شيء آخر، وأنا أنشد الصداقة، وأرفض العمالة والخيانة وأكد «لن انقلب على أيّ لبناني.. وأنقذ نفسي ليموت لبنان.»..
هذا تأكيد جديد بأنّ أميركا لا تسعى الى بناء علاقات تقوم على الصداقة، إنما تريد اتباعاً وعملاء ينفذون أوامرها وتعليماتها دون نقاش أو اعتراض.. هذا هو ديدن السياسة الاستعمارية الأميركية.. وما كشفه الوزير باسيل عن طلبات أميركية محددة ورفضه لها، بجرأة وشجاعة، رغم الترغيب والترهيب، يؤكد هذه الحقيقة التي تكشف للبنانيين طبيعة السياسة الأميركية تجاه بلدهم، وزيف ما تدعيه من صداقة لهم إلخ…
جريدة البناء
أضيف بتاريخ :2020/11/10