ستة شهور طوال…
سعادة مصطفى أرشيد
انتهت الانتخابات الأميركية، بنجاح الديمقراطي العجوز جو بايدن، الذي ما لبث وفور ظهور النتائج، أن تخلى عن مظهرة الناعس المجهد، وارتفعت معدلات هرمون الأدرينالين في دمه، ليظهر حيوياً ومنطلِقاً، هذا النجاح قد جعل بعض القوم يبتئسون بسبب ضخامة استثماراتهم في خصمه الفائز، وربط مصيرهم بمصيره، وكذلك بسبب استخدام بعضهم المفرط لفائض القوة، الذي أتاح لهم دونالد ترامب استخدامه دون ضوابط أو روادع، سواء في حربهم على اليمن وشعبه، أو في قضية قتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي، أو في الضيافة الكريمة في فندق «ريتز كارلتون»، التي بذلها ولي العهد السعودي لأبناء عمه، وطالت رئيس الوزراء اللبناني في حينه والمكلف اليوم وغيره من رجال أعمال ومستثمرين، وغير ذلك كثير، وقد ظهر الامتعاض جلياً من نتائج الانتخابات وذلك في تأخرهم عن تهنئة المرشح الفائز والاكتفاء ببيان يحمل صفة العمومية قد صدر عن وزارة الخارجية السعودية، هذا الفوز جعل من قوم آخرين فرحين بما أتاهم هذا الفوز، فاستثماراتهم قد أتت أكلها وحققت أرباحاً – سنرى لاحقاً إنْ كانت حقاً كذلك –، ومن هؤلاء الأكراد الذين ورّطتهم إدارة اوباما – بايدن بالعمل على الانفصال وقد تحيي عودة الديمقراطيين من آمالهم مؤقتاً بأنها ستعمل على تقسيم العراق وتقطيع سورية إنْ هم بقوا يحملون ذات العقلية البائسة، ومنهم إيران التي ستتخفف من الحصار المفروض عليها وستتمّ العودة إلى الاتفاق النووي الذي كانت قد أبرمته مع الإدارة الديمقراطية، ومنهم الإخوان المسلمون الذين تراهم عقول الديمقراطيين مكوّناً أساسياً من مكونات السياسة في الشرق والعالم الإسلامي.
التريّث في إصدار الأحكام، واتخاذ القرارات وتحديد السياسات، ضرورة في هذه اللحظة الاستثنائية، في خواتيم ولاية ذلك الرئيس الخارج عن مألوف أسلافه، ولا يجوز الافتراض أنّ هذا المرشح معنا أو ذاك ضدّنا، بقدر ما نحن من سيكون مع هذا أو ضدّ ذاك، طالما أننا لسنا مع أنفسنا، وثمة مجموعة من المسائل يتوجب التوقف عندها، لتقدير مسارات السياسة الأميركية، التي أصبحت بحسب بعضهم – وهو بعض محقّ – هي الأساس في تحديد محركات السياسة عندنا:
المسألة الأولى هي حول سلاسة انتقال السلطة من الإدارة الراحلة للإدارة الجديدة، إذ على ما يبدو أنّ معارك قضائية ستدور، وقد تأخذ وقتاً إلى حين إصدار أحكامها النهائية، هذا وثمة من يظنّ أنها ستكون في مصلحة ترامب نظراً لأنّ الجمهوريين يمثلون الأغلبية في أعضاء المحكمة العليا، إلا أنّ تقديرات تذهب في الاتجاه المعاكس، فلا زالت سمعة القضاء جيدة وهو بالتالي يحكم بموجب الأدلة والبيّنات ونصوص القانون، لا بموجب القناعات السياسية والعقائدية والحزبية المسبقة، إضافة إلى ذلك يبدو أنّ أطرافاً من الحزب الجمهوري لطالما نظروا إلى ترامب باعتباره طارئاً على الحزب وعلى السياسة، وأخذوا ينظرون إليه اليوم باعتباره عبئاً عليهم وبقعة سوداء في صفحتهم، سوف يكون لها تأثيراتها عليهم في أيّ انتخابات مقبلة، وهم يبدون استياء معلناً من تعنّت ترامب ورفضه قبول نتائج الانتخابات.
المسألة الثانية: إنّ احتمالات الفوضى التي قد تشهدها شوارع المدن الأميركية، والتي ستقودها جماعات البيض والعنصريين، الذين أعجبتهم شعوبية ترامب وشخصيته وسلوكه كأزعر الحي، أو قاتل الهنود الحمر في أفلام هوليوود القديمة، أو في المقابل جماعات السود والأقليات التي ستدافع عن نفسها، أو تلك الجماعات التي تضرّرت من تراجع مؤسسات الرعاية الاجتماعية، ثم تحطيم أحد أهمّ إنجازات إدارة أوباما الداخلية المتمثلة بأنظمة التأمين الصحي التي يستفيد منها الفقراء وأبناء الأقليات، وتفيد أخبار الصحف الأميركية أنّ مليون وثمانمائة قطعة سلاح قد بيعت لمواطنين خلال أيلول الماضي، هذا الشارع المأزوم والمعبّأ بالعنف والكراهية ورفض الآخر المختلف باللون أو العرق أو الدين أو المنبت، قد يكون من الصعوبة بمكان ضبطه بوسائل الحوار والإقناع، وقد لا يتأتى ذلك إلا بقدر عال من العنف الرسمي المقابل.
المسألة الثالثة: أنّ ترامب باق في الحكم وممسك بتلابيب القرار حتى ظهيرة العشرين من كانون الثاني المقبل، وهو بموجب الدستور الرئيس الشرعي للولايات المتحدة بكامل الصلاحيات الدستورية، لكن جرت الأعراف، بأن يكون رئيس تصريف أعمال طالما لم تتمّ إعادة انتخابه، لكن دونالد ترامب قد تصرف على الدوام بشكل خارج عن مألوف العرف السياسي الأميركي، فهل سيدفع الأمور العالمية نحو التدهور خلال هذه الفترة، هل سيفتعل احتكاكات مع الصين أو إيران أو فنزويلا مثلاً؟ وهل سيقوم حليفه وصديقه نتنياهو أيضاً بمغامرات تجاه غزة أو لبنان أو إيران، طالما أنه في طليعة الخاسرين؟
المسألة الرابعة: أنّ جو بايدن الرئيس، قد يختلف عن جو بايدن السناتور ونائب الرئيس، وهو قد أتى مقيّداً بالتزامات مع الحزب الديمقراطي الذي سيكون الحاكم الحقيقي، وقد جاوز الثامنة والسبعين من عمره، وهو أكبر الرؤساء الستة والأربعين عمراً منذ الاستقلال والرئيس الأول جورج واشنطن، وبالتالي فمن الراجح انه لن يترشح لولاية ثانية في عام 2024، انه رئيس لدورة واحدة إنْ أتمّها، وهو في غالب الأمر، لن يخرج في قراراته الإستراتيجية عن أفكار الطاقم القديم من كهنة ومحترفي السياسة في الحزب الديمقراطي أمثال وزير الخارجية الأسبق جون كيري وخصمه في التنافس على ترشيح الحزب الديمقراطي السناتور المخضرم بيرني ساندرز وغيرهم، بالطبع إضافة إلى طواقمه الجديدة الشابة.
فلسطينياً، في حال بقيت الأمور عائمة، والرؤية لما تتضح بعد في الشهرين المقبلين، فإنّ بن يامين نتنياهو يدرك أكثر من غيره، انه أمام معركته السياسية الأخيرة، وانه يحتاج الى تنفيذ عمل سياسي لافت، يحشد خلفه غلاة المستوطنين والأكثر تشدّداً وعنصرية، مستلهماً من التجربة الشعوبية الرعاعية لصديقه ترامب، وأنّ هذه الشعوبية تستطيع خلق حالة رأي تدعمه في معركته القضائية وهو يجلس في قفص اتهامات دعاوى الفساد المرفوعة ضده.
ثمة احتمالات عالية أن ينهار الائتلاف الحكومي في (إسرائيل) مع نهاية عهد ترامب، وبالتالي ستكون هناك انتخابات مبكرة، في غياب نتنياهو بالغالب، وستكون هناك احتمالية عالية للإتيان بقيادة (إسرائيلية) جديدة تتوافق مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالرأي والسلوك في حالة استقرار أوضاع بايدن، وتسلّمه مقاليد الحكم، فلن تعيد الإدارة الجديدة الزمن الى الوراء، وإنما ستتعامل بواقعية وقبول مع ما ترتب من حقائق على الأرض في السنوات الأربع الماضية، بغضّ النظر عن انسجامها أو عدم انسجامها مع الرؤية الجديدة، فقرار نقل السفارة لن تتمّ العودة عنه، وتفكيك المستوطنات غير وارد إلا بحق المستوطنات التي أقيمت لتتفكّك، وقد يحول الرئيس بايدن دون استيطان جديد – علماً أنّ (الإسرائيلي) قد ابتلع من الأرض فوق ما يكفيه –، وعملية الضمّ ستبقى مفاعيلها على الأرض، وإنْ تمّ ذلك دون إعلان، وقد تتمّ العودة إلى تطبيق وتحديث بعض من أفكار وزير الخارجية الأسبق جون كيري، بجعل الأمن والاقتصاد يتقدّمان على السياسة، أيّ أن يخلق الاقتصاد والأمن واقعاً سياسياً على مقياس الأمن والاقتصاد، شيء شبيه بمرحلة الثالوث، رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض، الجنرال الأميركي دايتون، ممثل الرباعية طوني بلير، هذا ما سيخلق شيئاً من الازدهار الزائف والإنجاز الموهوم، بالترافق مع إعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن، لكن أولويات الرئيس الجديد حين تسلّمه دفة قيادة بلده، ستكون مرتبة بعناية وسوف تخصص الشهور الستة الأولى – في أقلّ تقدير – على الشأن الداخلي وفي المقدّمة التصدي لفيروس كوفيد 19 وآثاره الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وهي مسألة أهملها ترامب وسوّقتها حملة بايدن الانتخابية وكان لها دور في فوزه، ثم على الرئيس الالتفات لتحفيز الاقتصاد والالتفات إلى مشاكل المجتمع الأميركي المزمِنة وما أضافت إليها سنوات ترامب الأربع من تداعيات، كلّ ذلك قبل أن يبدأ بايدن بالالتفات إلى خارج الولايات المتحدة وقضايا العالم، وهنا لا بدّ من إدراك أنّ مسألتنا ليست من المسائل التي تتصدّر الاهتمام الأميركي أو العالمي على حدّ سواء، فهي بنظر العالم قضية مزمنة، مستقرة، لا تهدّد بالاشتعال، والشهور الستة المقبلة ستكون فرصة للقيادة الفلسطينية للنزول الآمن عن الشجرة، بإشاعة الأمل بالقيادة الأميركية الجديدة، وإظهار حسن النية بتكريس الخيار الوحيد نحو التفاوض من جديد حول حلّ الدولتين الذي قد طوته الأحداث وأصبح جزءاً من الماضي، والعودة للتنسيق الأمني وقبض أموال المقاصة، وشطب مشروع المصالحة وما استتبعها من تفاؤل مؤقت، وحديث عن حكومة وحدة وطنية وانتخابات لحين ظهور أزمة جديدة، كلّ ذلك مقابل وعود تمّت تجربتها من قبل…
جريدة البناء
أضيف بتاريخ :2020/11/12