عولمة الفوضى الرعاعيّة الأميركيّة مثل يُحتذى
سعاده مصطفى أرشيد
تمرّ الولايات المتحدة الأميركية في لحظة حرجة وفارقة إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فهي المرة الأولى في تاريخ ذلك البلد التي يرفض فيها مرشح للرئاسة قبول نتائج الاقتراع إلا إنْ كانت لصالحه، ويبدي إرادة وإصراراً على أنه الفائز، ثم يتخذ القرارات ويتصرّف على أنه باقٍ في الرئاسة لأربع سنوات مقبلة، هذا فيما يعدّ المحامون طعونهم لتقديمها للقضاء من أجل النظر في القضايا والمزاعم التي يدّعيها ترامب حول صدقية نتائج فرز الأصوات، وفي غالب الأمر أنه سيقبل بحكم القضاء أيضاً لو كان لصالحه فقط، وإذا كان الحكم لغير صالحه فإنّ قراره سيكون وضع الأميركيين أمام خيار، أنا أو الفوضى والخراب، فإنّ لديه جمهوراً مسعوراً جاهزاً ومتأهّباً ومدجّجاً بالسلاح والعنف والعنصرية لإشعال النار ووضع البلد أمام هذا الاختبار الصعب.
هذه اللحظة ليست حرجة للولايات المتحدة فحسب، وإنما لأسطورة الديمقراطيات الغربية عموماً وتجلياتها الأخيرة المسمّاة الليبرالية الجديدة (new liberalism) والتي افترض فلاسفتها ومنظروها على أنها النظام الأكمل والأمثل، وزاد بعضهم على أنها تمثل نهاية التاريخ – فرنسيس فوكوياما مثلاً، الذي يرى ومعه آخرون انّ هذه المدرسة قد أوصلت العالم ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى حدّ الكمال المطلق وأنها تمثل أفضل ما يمكن أن يصل له الإنسان وأنّ المستقبل لن يجود بما هو أفضل منها. هذه اللحظة حرجة على مستوى العالم بأسره، إذ إنّ غياب السياسة الخارجية والدفاعية والمالية للمؤسسة الأميركية الأمّ، وانحسارها في البيت الأبيض، أيّ في شخص الرئيس الفرد ومستشاريه وطواقمه دائمة التغيّر، قد يفتح مجالاً واسعاً لدى قادة وسياسيين متفلتين من عقال الحكمة، للعمل خراباً ودماراً ودماء في هذا الوقت الضائع، وللتصرف من خارج صندوق المعقول السياسي والحسابات المعمول بها، على رأس هؤلاء الرئيس ترامب وما قيل مؤخراً عن تفكيره ورغبته في توجيه ضربة لإيران في الأسبوع الماضي، يرى ترامب انه بذلك سيفتح مواجهة قد تطول إلى ما بعد العشرين من كانون الثاني المقبل، وانه بذلك سيقطع الطريق أمام أية تفاهمات مستقبلية بين إيران وإدارة بايدن، وقد كاد أن يقدم على ذلك لولا العسكريون والجيش الذين استهجنوا المسألة فقام باستبدال بعضهم بآخرين، الأمر الذي يبقي احتمالات الاشتباك مع إيران قائمة، وكان مستشاره للشؤون الإيرانية المحافظ الجديد – العتيق قد قام مؤخراً بجولة في المنطقة، لحقت بها جولة مايك بومبيو الذي لا يزال يقود السياسة الخارجية من البيت الأبيض بطريقة الباقي في منصبة لأربع سنوات مقبلة، في جولته الأخيرة قام بزيارة مستوطنات ومناطق في الضفة الغربية ورد ذكرها في صفقة ترامب على أنها ستضمّ لـ (إسرائيل)، وهو الأمر الذي لم يقم به أيّ وزير أميركي من قبل، وبذلك يكون قد أعلن دعم واشنطن لنتنياهو لا بل ويدفعه باتجاه مزيد من العدوانيّة. في زيارته للرياض دعم الحليف الوفي لرئاسة ترامب محمد بن سلمان، الذي لم يبرق لبايدن مهنئاً حتى الآن، ولعله لا يزال على قناعة او أمان بأنّ ترامب باقٍ في الحكم لفترة رئاسية ثانية، وهو يدرك تمام الإدراك قوة الرابط بين بقاء ترامب وبقائه، وانّ مغادرة ترامب تعني مغادرته ميدان السباق نحو العرش السعودي، وأنه في هذه الحالة سيكون فريسة تنهشها أنياب أبناء عمومته من ضحاياه في فترة تنمّره. نتنياهو أيضاً أمام ظروف مشابهة لظروف ولي العهد السعودي، فرحيل ترامب يعني رحيله من الحياة السياسية باتجاه وعر، فالقضاء ينتظره بشوق ليمثل أمامه بتهم الفساد وتلقى الرشى المدعومة بالبيّنات والشهود، حيث قد يُطاح به بشكل فاضح ويدخله السجن. لا يجد نتنياهو من طريق أمامه إلا أن يستلهم من تجربة ترامب الشعوبية – الرعاعية التي سيثيرها لا ضدّ سود البشرة والمختلفين عنهم عرقياً أو ثقافياً وإنما باتجاه بيض البشرة وزرق العيون من أنصار خصمه، فجمهور نتنياهو من عنصريين ومتطرفين بدوره جاهز للعمل، ولكن الضحية في الحالة (الإسرائيلية) سيكون الفلسطيني وأرضه، عملية الضمّ التي تتمّ اليوم بشكل صامت قد تتمّ لاحقاً بشكل فظ وعنيف، وقد يذهب نتنياهو باتجاه الاشتباك مع غزة أو لبنان، وقد يدفعه يأسه نحو توريط أميركا والخليج بلعبة دموية مع إيران.
عود إلى عنوان المقال، نلاحظ انتشار ظاهرة الشعوبية الرعاعية بشكل يستحق المتابعة، هذه الظاهرة عادت للظهور بعد كمون، وبعد أن كانت محلية في بلد وربما ما جاوره كما رأينا في الثورات الملوّنة (البرتقالية) أو في ربيعنا الزائف، وها هي تتعولم في نسختها الترامبية الأخيرة، الطريقة التي أخذ ينحو بها العمل السياسي، أخذت تتخذ من ترامب وأسلوبه نموذجاً، فالظهور بمظهر الفتوّة (القبضاي) شكل محبّب للطبقات الشعبيّة البريئة، وللعنصريين والمتطرفين ودعاة التفوق العرقي وأنصار القوة غير العاقلة من البعيدين عن البراءة، ذلك مقابل منطق السياسة التقليديّ المعتمد على تحليل المعلومات والعمل من أجل مصلحة عليا والالتزام بضرورات الأمن القومي، والحديث عن الازدهار الاقتصاديّ والرفاه الاجتماعيّ، ورفع مستوى التعليم والرعاية الصحية. يذهب الخطاب السياسي باتجاه التوحش الغرائزي، والشعوبية الرعاعيّة، وأساليب الفهلوة والدجل والتكاذب عند بعض آخر، نرى الحالة الأولى في الحال الأردني عقب إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية التي لم يشارك بها ثلثا أصحاب حق الاقتراع، ونتساءل، كيف غابت الدولة؟ وماذا جرى للعقد الاجتماعي؟ وإلى أين سيوصل البلد هذا الحال؟ وإلى الغرب من الأردن، في فلسطين – الضفة الغربية، الجميع يتحدث عن فوضى السلاح، وعن حالات إطلاق النار التي لا تستهدف الاحتلال، وفي جانب شعبوي متدنّ، يقيم أحد أكبر المستثمرين في الضفة عبر شركات مسجلة في بنما (ليتمّ التعامل معها بصفتها استثماراً أجنبياً وللحصول على امتيازات ضريبة وتسهيلات حكومية)، دعوى في محكمة محلية على الحكومة البريطانية التي أصدرت «وعد بلفور».
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/11/20