مناظرة الأمير تركي الفيصل مع الجنرال الإسرائيلي تكريس للتطبيع وتأسيس لبدء علاقات تحالف استراتيجي ضد إيران
عبد الباري عطوان ..
من تابع “المناظرة” التي نظمها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، المعروف بهيمنة اللوبي الإسرائيلي عليه، وجمعت بين الأمير تركي الفيصل، رئيس جهاز الاستخبارات السعودي الأسبق، والجنرال يعقوب عميدور، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، يدرك جيدا أن “التطبيع″ بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل يسير على قدم وساق، وأن هذه المناظرات ليست أحد حلقاته فقط، وإنما تأتي لتؤسس تعاون إستراتيجي بين الجانبين لمواجهة الخطر المشترك المتمثل في “الإرهاب”، بشقيه السني والشيعي وإيران وحزب الله، و”الدولة الإسلامية” على وجه الخصوص، لأن إسرائيل لم تعد عدوا، وحتى وأن بقيت كذلك، فهي عدو من الدرجة الثانية، أو حتى العاشرة بعد إيران.
الجنرال عميدور أكد طوال المناظرة على عدة أمور أساسية نوجزها في النقاط التالية قبل الحديث بنظرة أعمق إلى هذه الخطوة التطبيعية:
أولا: الجامعة العربية تغيرت (انقسمت)، ومبادرة السلام العربية تجاوزها الزمن، ولم تعد صالحة، ولا بد من التطبيع والتعاون مع الدول ذات المصالح المشتركة، أي إسرائيل ودول الخليج.
ثانيا: إيران و”حزب الله” هما الخطر الوجودي الذي يهدد إسرائيل، ويسعى الطرفان لتحويل الجولان كنقطة انطلاق استراتيجي لضربها.
ثالثا: إيران كقوة نووية تشكل الخطر الأكبر على السعودية ودول الخليج وإسرائيل معا، ولذلك يجب منعها من تطوير أي قدرات نووية بعد انتهاء الاتفاق الحالي.
رابعا: يطالب الجنرال الإسرائيلي العرب صراحة بنسيان القضية الفلسطينية، ولكن بطريقة مواربة، عنوانها التعاون مع إسرائيل دون أن يكون هذا التعاون مشروطا بالتوصل إلى تسوية لهذه القضية، وتصل درجة الوقاحة إلى القول بأن الفلسطينيين في فلسطين المحتلة التاريخية منها، أو الضفة الغربية والقطاع، أكثر أمانا من نظرائهم العرب في دول عربية عديدة.
الأمير الفيصل في المقابل ركز على عدة نقاط لم تتضمن أي إضافة لحواراته السابقة مع مسؤولين إسرائيليين، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقال إنه تحدى رئيسه ياسر عرفات عندما عارض الانتفاضة الثانية المسلحة، وتأكيده، أي عباس، أن لا حلا عسكريا للقضية الفلسطينية، وهو الكلام نفسه الذي كرره تلميذه اللواء أنور عشقي في حديثه لمحطة عربية.
ثانيا: ركز على مبادرة السلام العربية التي هي طبعة سعودية بالأساس، واستغرب عدم إمساك حكومة نتنياهو بها.
ثالثا: أكد أن التعاون بين إسرائيل ودول عربية في مواجهة إيران، سيكون أفضل في ظرف يكون فيه سلام بين الدول العربية وإسرائيل.
رابعا: كرر الأمير تركي الفيصل مقولته بأنه لا يستخدم مصطلح “الدولة الإسلامية” وإنما “فاحش”، وكرر هجومه على الرئيس السوري بشار الأسد، وقال إنه طلب من الأوروبيين أن يأخذوا لاجئا واحدا وهو الرئيس الأسد، وطالب بتسليح المعارضة السورية.
خامسا: الأمير الفيصل قال إن “داعش” موجودة في ليبيا والعراق وسورية بسبب تحولها إلى دول فاشلة، ولم يشر مطلقا إلى من حولها إلى هذه النتيجة، وخاصة أمريكا ودول خليجية، بينها السعودية.
***
العبارة الأخطر والأكثر تضليلا التي وردت على لسان الأمير الفيصل، تلك التي قال فيها “أقول دائما للمشاهدين اليهود أنه بالعقول العربية والمال اليهودي يمكننا المضي قدما بصورة جيدة في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية”.
ما لا يدركه الأمير الفيصل أن العرب يملكون الاثنين، أي المال والعقول معا، وليسوا بحاجة إلى العقول أو المال اليهودي، ولكن المشكلة تكمن في أن حكوماتنا وحكامنا، والسعوديين على رأسهم، أضاعوا المال وبددوه، وقتلوا العقول، ومن لم يقتلوه منها، دفعوه إلى الهجرة إلى دول غربية، تقدر العلم والعلماء، وتعرف كيف توفر لهم البيئة الحاضنة لكي يبدعوا في مجالاتهم كافة.
نستغرب أن يتحدث الأمير الفيصل عن امتلاك اليهود للمال، وهو ينتمي إلى أسرة تحكم بلدا يصدر عشرة ملايين برميل من النفط على مدى خمسين عاما على الأقل، وتخطط حاليا لبيع أكبر شركة في العالم، وهي “أرامكو”، أو جزء منها، لتأسيس صندوق استثماري سيادي بقيمة ترليوني دولار (2000 مليار دولار).
هذا الغزل للمال اليهودي يصب في النتائج الخطأ، وفي مصلحة الجهات الخطأ، ويروج لمفاهيم غير صحيحة، وغير منطقية، ويفتح الأبواب أمام رؤوس الأموال الصهيونية لغزو الأسواق العربية، ووضعها تحت الانتداب الإسرائيلي.
لا نعتقد أن اليهود الذين لا يزيد تعدادهم عن 15 مليون نسمة في العالم بأسره يملكون من المال أكثر من العرب الذين يصدرون أكثر من ثلثي إنتاج منظمة “أوبك”، كما يملكون ثلثي احتياط النفط في العالم، وكنوز معدنية أخرى، ليس لها مثيل في أي مكان في العالم.
المملكة العربية السعودية ودول الخليج كانت تزدحم خزائنها بأكثر من 800 مليار دولار من عوائد النفط سنويا، حتى لقبل سنتين، عندما وصل سعر البرميل إلى140 دولارا، فليقل لنا سمو الأمير أين ذهبت هذه العائدات وغيرها، ولماذا يعيش الشعب السعودي حالة من التقشف حاليا، ويواجه ضرائب مباشرة أو غير مباشرة، وغلاء معيشي سيزداد طوال السنوات المقبلة؟
المسؤولون في المملكة العربية السعودية يعتقدون أن التطبيع مع إسرائيل يشكل لهم “شبكة أمان” في مواجهة الخطر الإيراني، الذي استخدم “فزاعة” لتبرير وتسويق إقامة علاقات مع دولة الاحتلال، وهم مخطئون في ذلك، لأن إسرائيل، كانت وستظل هي الخطر، والأمان الحقيقي لهم وحكمهم يأتي من خلال مقاومتها حتى تقبل بالسلام العادل المنصوص عليه في قرارات الشرعية الدولية، وليس في مبادرة السلام العربية “المسخ” التي تعفنت، ولم تلق إلا الاحتقار.
إسرائيل لن تتفاوض مع العرب، وأن تفاوضت فلن تقدم أي تنازلات جوهرية، والجنرال الإسرائيلي أوضح ذلك في المناظرة، لأنهم لا يشكلون خطرا عليها، وأن قررت التفاوض مستقبلا فمع إيران وحزب الله الذين يملكون أكثر من مئة ألف صاروخ في حوزتهم من كل الأحجام والأبعاد، ولذلك كل أطروحات الأمير الفيصل حول السلام والمفاوضات انتهى عمرها الافتراضي بالنسبة إلى الأعداء على الأقل.
عندما كان العرب عربا، يرفضون التطبيع، ويخوضون أربع حروب لاستعادة الحقوق المغتصبة في فلسطين، كانت إسرائيل تتوسلهم، ومعها الغرب كله، للدخول في مفاوضات معها، ولكن الآن وبعد أن أصبح العرب، أو بعضهم، هم الذين يتوسلون التطبيع، ويؤسسون لإقامة علاقات معها، فان الصورة انقلبت، وباتت إسرائيل تنظر إليهم كبشر ضعاف لا يستحقون حتى الشفقة.
***
ختاما نقول أن أبرز ما يمكن استخلاصه من هذه “المناظرة” أن السعودية تمهد للتعاون الاستراتيجي مع إسرائيل كبديل لأمريكا التي “تغيرت”، ولم تعد تقبل أن تخوض حروبها، أي السعودية، ضد إيران أو غيرها، وأن هذه المناظرات والمصافحات الهدف منها “ترويض” الرأي العام السعودي، ومن ثم العربي والإسلامي، للقبول التدريجي بهذا التوجه التطبيعي المدروس والمتفق عليه.
المملكة العربية السعودية تعيش حالة من الارتباك والتخبط، وقرارات قياداتها، سواء الداخلية أو الإقليمية أو الدولية، ومن بينها التطبيع مع “إسرائيل”، إلى جانب حروبها في اليمن وسورية والعراق وإيران، المباشرة منها وغير المباشرة، هي أحد علامات هذا الارتباك، والذهاب إلى إسرائيل كأحد المخارج، أو أهمها، كمن يستجير من الرمضاء بالنار.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما قالها صراحة في مقابلة له مع الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، إن الخطر الداخلي يهدد الأسرة الحاكمة في السعودية أكبر بكثير من الخطر الخارجي المتمثل في إيران، على حد وصفهم، ولا نبالغ إذا قلنا أن هذه السياسات التطبيعية في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وضياع آلاف المليارات من الدخل النفطي من جراء الهدر والفساد، وسوء الإدارة، ستفاقم من الأزمة الداخلية، وستصعد حالة الإحباط الشعبي المتفاقم.
لو كانت هناك عقول عربية خلاقة في السلطة فعلا لما وصلت أمتنا إلى هذا الحضيض يا سمو الأمير.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2016/05/07