قراءة في الدستور الروسي لـ”سورية الجديدة”: تشريع دولي للتفتيت
عبد الباري عطوان ..
متابعة التطورات السياسية والميدانية المتعلقة بالملف السوري توحي بأن معظمها يتم وفق “التفاهمات” الروسية الأمريكية، وأن كل ما يجري في فيينا وجنيف من لقاءات ومفاوضات، هي مجرد كسب للوقت، ونوع من التضليل، فما يقرره وزيرا خارجية روسيا وأمريكا في الغرف المغلقة هو بمثابة “خريطة طريق” تحدد مستقبل سورية، وقد يتم فرضها بالقوة في نهاية المطاف.
لم تكن زلة لسان ما قاله جون كيري وزير الخارجية الأمريكي بأن شهر آب (أغسطس) المقبل سيكون بداية تطبيق لمرحلة الحكم الانتقالي، وليس صدفة أن يتم اختيار صحيفة لبنانية، مقربة من سورية و”حزب الله”، لتكون احد المنابر لتسريب مسودة دستور جديد تضعه موسكو بالتنسيق مع واشنطن.
هذه المسودة تكرس تسريبات أمريكية روسية سابقة حول نزع معظم صلاحيات الرئيس السوري التشريعية والتنفيذية، وتغيير هوية سورية العربية، وتحويلها إلى دولة فيدرالية يتم رسم حدودها وفق الاعتبارات العرقية والطائفية، وعزلها كليا عن المحيط العربي، والنص حرفيا على عدم انخراط جيشها في أي حروب مستقبلية خارج الأراضي السوري، في إشارة إلى إسرائيل.
***
هناك عدة نقاط أساسية لافتة في ما قيل أنها مسودة الدستور الروسي لسورية نوجزها كالتالي، في محاولة لدراسة بنودها والهدف من تسريبها في هذا الوقت بالذات:
أولا: تغيير المادة الأولى من دستور عام 2012 بالإشارة إلى سورية بالقول أنها الجمهورية السورية، بدلا من الجمهورية العربية السورية، أي إسقاط صفة العروبة وهويتها عنها.
ثانيا: إسقاط المادة الثالثة التي تقول أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع، أي أن تكون سورية الجديدة بدون أي هوية دينية محددة.
ثالثا: المساواة بالكامل بين اللغتين العربية والكردية كلغتين رسميتين للدولة، بغض النظر عن نسبة الأكراد في هذه الدولة بالمقارنة للعدد الإجمالي للسكان، وهذا لا يعني المساواة في اللغة وإنما في الشراكة الترابية والسياسية أيضا، ربما كمقدمة للانفصال التدريجي لاحقا، فلعب القوات الكردية الدور الأبرز في “تحرير” الرقة والموصل لن يكون دون ثمن.
رابعا: اعتماد اللامركزية كأساس لنظام الحكم، وإعطاء صلاحيات واسعة لبرلمانات المناطق، التي جرى إطلاق صفة “إدارات المناطق” عليها.
خامسا: إلغاء صيغة مجلس الشعب، واستبدالها بصيغة “جمعية الشعب” وهي تسمية غريبة وغير مسبوقة، تذكر بتسميات مماثلة مثل الجمعيات الخيرية، والجمعيات التعاونية (بقالات) والجمعيات والروابط الطلابية، أي أنه لن يكون هناك شعب، وإنما شعوب سورية.
سادسا: أن تكون مسؤولية الرئيس “مهمة الوساطة” بين الدولة والمجتمع، وبدون أي سلطات تشريعية، وحصر سلطاته التنفيذية بشرط التشاور مع البرلمانات أو الجميعات المناطقية.
سابعا: “جمعية الشعب”، مجلس الشعب سابقا، هي التي تعين أعضاء المحكمة الدستورية، ورئيس المصرف الوطني (المركزي سابقا) وتتولى “جمعية الشعب” إلى جانب “جمعية المناطق” السلطة التشريعية في البلاد، أصالة عن الشعب السوري، وإسقاط كل صلاحيات الرئيس في هذا المضمار.
ثامنا: تخضع القوات المسلحة للرئيس الذي سيتولى منصب القائد الأعلى، ويحق له في حال العدوان إعلان حالة الطواريء، وإعلان التعبئة العامة، ولكن بعد الموافقة المسبقة لـ”جمعية المناطق” أي الإدارات المحلية ذات الطابعين الطائفي والعرقي.
تاسعا: تعيين مناصب نواب رئيس الوزراء والوزراء، يجب أن يكون تمسكا بالتمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والقومية لسكان سورية، وتُحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية، بمعنى آخر تكريس المحاصصة الطائفية.
عاشرا: يُحرم تنظيم أي أعمال عسكرية، أو ذات طابع عسكري خارج مناطق سلطة الدولة، على أن ينحصر دور الجيش في الدفاع عن سلامة أرض الوطن وسيادته الإقليمية فقط.
أحد عشر: التأكد على الاقتصاد الحر، وحرية النشاط الاقتصادي، والالتزام بمعايير السوق، أي إلغاء جميع المعايير الاشتراكية، بما في ذلك دعم السلع الأساسية، وتحديد الأسعار، ورفع أي حماية للمواطن الفقير أمام التغول الرأسمالي.
***
ندرك جيدا أن مسودة الدستور الروسية هذه مجرد صيغة قابلة للنقاش والتعديل، ولكنها بمثابة “بالون اختبار” أيضا لرصد ردود الفعل، وامتصاص عنصر المفاجأة لدى المتلقي السوري، وتعويد الرأي العام عليها، والتطبع مع عنصر التغيير الجذري الذي تتضمنه معظم بنودها، ومن هنا، في رأينا، تكمن خطورتها، والهدف من تسريبها في هذا الوقت بالذات.
اللافت أن معظم هذه البنود تتمحور حول هدف أساسي متفق عليه بين القوتين العظميين، هو تكريس مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، وإلغاء الهوية الوطنية السورية الجامعة الموحدة، واستبدالها بهويات طائفية عرقية، وفك ارتباط سورية كليا بالهويتين العربية والإسلامية، وتحريم أي دور لها في مواجهة المشروع الإسرائيلي العنصري الاحتلالي في فلسطين وسورية ولبنان، فالجيش السوري هو للدفاع عن الدولة السورية، وما هو داخل حدودها فقط، وممنوع عليه القيام بأي تحرك أو لعب أي دور خارج الحدود.
الحروب التي بدأت حاليا للقضاء على “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، الموضوعتين على قوائم الإرهاب، الهدف منه هو إزالة كل العقبات في طريق هذا المخطط، أو السيناريو المعتمد أمريكيا وروسيا.
السيناريو المرسوم لـ”سورية الجديدة” هو نفسه الذي جرى تطبيقه لإقامة “العراق الجديد”، نفس التقسيمات، والمحاصصات الطائفية والعرقية، وفك ارتباط العراق مع العرب والقضية الفلسطينية، وتحويله إلى عراق ضعيف، مفكك، متقاتل، وغير مستقر، ودون أي هوية وطنية جامعة موحدة.
هذه الصيغة الدستورية، وسواء كانت صيغة أولية أو نهائية، تشكل خطرا على سورية أكبر من خطر الإرهاب، لأنها إذا ما جرى اتباعها ستكون “تشريعا” لمخططات التفتيت والتقسيم، وما علينا إلا النظر إلى أوضاع العراق وليبيا واليمن لنتعرف على مكامن هذا الخطر وتداعياته إذا ما جرى تطبيقه وإنجاحه.
عندما قلنا أن سورية بعد ليبيا والعراق على مشرحة التقسيم والتفتيت، سخر منا البعض المخدوع ببعض الطروحات الأمريكية والعربية، المدعومة بمليارات الدولارات، وآلة إعلامية جبارة، وها هي الوقائع على الأرض تميط اللثام عن هذه المخططات في وضح النهار.
نتمنى أن نسمع رأي السوريين في السلطة والمعارضة حول هذه الطبخة، وإلا فإننا سنعتبر الصمت يعني الموافقة، وهذا في حد ذاته صادما ومخيبا للآمال، بالنسبة إلينا على الأقل.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2016/05/26