عن الحركات الاحتجاجية الشعبية في الملكيات العربية
كاظم الموسوي
الحراكات والثورات الشعبية التي هزّت الوطن العربي منذ أواخر عام 2010 وبدايات 2011، وأحدثت متغيرات في الجمهوريات العربية، كشفت عن وصول موجات التحولات الديموقراطية إلى منطقتنا، جنوب المتوسط وغربه، بعد أن مرت على شماله وغربه وحتى أميركا الجنوبية، ما أعطى صورة عن مشهد سياسي جديد أدّت فيه القوى الشبابية ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً، وأفادت خلالها بدور حيادي لمؤسسة الجيش والشرطة منها، مثلما هو بثّ النشاط في عروق الأحزاب السياسية التقليدية التي حاولت أن تسهم في الحراكات، وبرزت الدينية/ الإسلاموية منها أكثر لوجود أشكال من التنظيم والتواطؤ معها في مشاريع وضعت لإدارة التغيير في الوطن العربي.
أصبحت الأوضاع في العديد من البلدان مهيّأة للتغيير والتحول، ولا سيما في الجمهوريات العربية كاشفة الاستبداد والقمع والفساد، ما أدى إلى سهولة التغيير وإسقاط رؤوس السلطات فيها، ولا سيما في تونس ومصر. وتمكنت الحراكات من إنهاء أشكال من حكم عسكري استبدادي وإجبار الرؤساء فيهما على التنحي عن السلطة، والهرب من البلد في تونس والقبول بالاعتقال والمحاكمة في مصر، وبروز القوى الإسلاموية في واجهة المشهد، وفوزها في أول انتخابات ديموقراطية حدثت، لكنها واصلت التسلط ومحاولة تنفيذ برامجها في السيطرة والتحكم والتمكين وإعادة تدوير شكل السلطات، أو استبدال وجوه المتنفذين في السلطات، وهو ما خيّب الآمال في مجريات ما حدث مبكراً.
حاولت القوى السياسية في جمهورية ليبيا واليمن أن تكرر الصورة، لكن التدخلات الخارجية المباشرة دفعت بحرف صور الحراكات الشعبية إلى اقتتال دموي وتصفية حسابات، إذ جرت تصفية الرئيس الليبي معمر القذافي وأجبر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح على تسليم السلطة لنائبه بضغوط خارجية وخطط التهرب من تحقيق التغيير المطلوب، أو الابتعاد عن تحولات ديموقراطية كما نشدتها الجماهير الشعبية التي خرجت إلى الشوارع وطالبت بالتغيير.
أخذ الحراك الشعبي في الجمهوريات الأخرى، ولا سيما في سوريا، طابعاً دموياً تدخلت فيه قوى متعددة لا تؤمن بالحرية والديموقراطية في بلدانها أو فتحت حدودها أمام عصابات الإرهاب الدولي، وشاركت في وضع خطط ومشاريع حرفت الأهداف وشوهت المسارات أو التجارب التي تحققت في غيرها. لكن تمكنت السلطات في جمهوريات الجزائر والسودان وموريتانيا من التنبه إلى ما وصلت إليه الأمور في جيرانها، وسبقت أن توقّت من انحراف المسيرة قبل منطلقها أو فيه، ووازنت في صراعاتها الداخلية وضغوط الخارج الأجنبي.
أما في الملكيات، فاستعدّت السلطات لامتصاص غضب شعوبها بالإغراءات المالية من جهة، ومحاولات الاحتواء بالاستجابات المقننة لبعض الإصلاحات أو التلويح بالعصا وقمع أي حراك شعبي واسع من جهة أخرى، واستخدمت أساليب مختلفة توزعت بين قبول بعض الإصلاحات وإعطاء فرص للتحديث، كما في مملكة المغرب، وفسح المجال لمشاركة أحزاب المعارضة في السلطة أو في استمرار سياسات القمع والإنكار كما في مملكة البحرين وباقي دول الخليج.
ما حدث في الأردن أخيراً أعاد الصورة بمستوى متطور من الوعي والإدراك
لم تتوقف الحراكات الشعبية في أغلب البلدان العربية، الجمهورية أو الملكية، لكنها راوحت فيها بتموجات واضحة، أغلبها مترددة في التغيير إذا ما تناقضت في خطوات الإصلاح والتحديث. ولعبت القوى الخارجية، الإقليمية أو الغربية عموماً، أدواراً في تغطية الحراكات، سلباً أو إيجاباً، في دعم قواها أو الصمت على اضطهادها وقمعها بأي وسيلة، بل وصلت في بعضها إلى الدعم العسكري والاستخباري لعمليات عدوان وحرب واحتلال من جديد.
قدمت الحراكات الشعبية دروساً كثيرة وأعطت دفعاً لنبض الشوارع العربية ورفع الصوت والغضب والتحدي لإرهاب السلطات والاستبداد والفساد والتواطؤ مع المشاريع العدوانية. ومنها ما هو مستمر إلى الآن في الأغلب لفقدان عمليات التحول إلى قواعد وقوى ساندة أو مؤثرة فيها. وتحولت بعضها إلى جمر تحت رماد استمرار تسلطية السلطات المتحكمة في الدول العربية.
ورغم ذلك تنطلق بين مدة وأخرى مبادرات وتظاهرات عفوية أو ارتدادات لتدهور الأوضاع الاقتصادية أساساً ومحاولات الكبت لتطلعات الشعوب إلى الحرية والديموقراطية وحقوقها المشروعة.
تصاعد الحراكات الشعبية في ثلاث ملكيات عربية أخيراً، وتحديها كل أساليب منعها أو إسكاتها أو حبسها، في البحرين والمغرب والأردن، خصوصاً، أو بالشكل الصارخ والواضح والمعلن، وليس الكامن أو المضمر في أحشاء الأجيال الجديدة في باقي البلدان العربية، يكشفان خطل محاولات تشويه صورة الحراكات الشعبية واندفاعاتها وحرف وصفها بأسماء ليست منها أو لها، ومحاولات السخرية من سيرها أو تموجها أو حتى سكوتها إلى حين. ويبيّن هذا الصعود حيوية الأجيال الشابة وتعلمها الدرس وعدم صمتها عمّا يحدث لها أو أمامها في البلدان الأخرى. كذلك يوضح أن وعي الشعوب لمصالحها ودورها في رسم مستقبلها له أهميته ووقته اليوم في الحراكات الشعبية العربية، في الشارع السياسي والمشهد البارز في الأغلب الأعم.
وقائع الحراكات الشعبية اليومية تضع أمامها مهمات الاستمرار والبرامج وإدارة المواجهات وتقبل التحديات، وصولاً إلى أهدافها الواقعية، في الإصلاح والتغيير، في العمران والتنمية، والحقوق والمتطلبات، إذ لا يمكن في هذا الزمن المكشوف أن تستمر الصورة أو المشهد كما هو من عقود طويلة، أو انحراف الوجهة أو تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية على حساب الأغلبية الصامتة واستغلال واقعها في استمرار ضغوط التحكم والتسلط والانتهاك. كذلك لا يعني الصمت الخضوع أو الركوع، فلكل وضع درجته، ولكل حالة مستواها وحجمها. وما شاهدناه في أغلب البلدان العربية، وليس غيرها، يضع أمام الجميع مسؤولية الالتزام والاستجابة للمطالب والأهداف الواقعية واحترام المصالح الوطنية والقومية والصمود أمام الضغوط الخارجية المعادية والعمل الجدي لمواجهة التحديات المستمرة.
ما حدث في الأردن أخيراً أعاد الصورة التي شاهدناها قبل سنوات بمستوى متطور من الوعي والإدراك للمهمات والمتطلبات، وتقديم صورة متقدمة بوضوح للحراك الشعبي وقدراته على التصدي والمواجهة، وانتظام قوى واسعة من القطاعات الاجتماعية فيه، وبروح سلمية وتنظيم عملي وفعال. إن مثل هذا المشهد ينبغي أن يصبح نموذجاً آخر لغيره في البلدان الأخرى، وفي آفاق المسؤولية والإجماع العربي على المواكبة لمتغيرات الزمان والمكان والتأثر بما يحيط وما يلزم أن يكون.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/07/10